تقرير : منى توكا
منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل من عام 2023، لم تهدأ النيران بها ولا في قلوب الملايين الذين أجبروا على مغادرة منازلهم ومناطقهم، تاركين وراءهم ذكريات وأعيادًا كانت تُحيى في دفء العائلة وتحت سقف الوطن.
ومع اقتراب عيد الأضحى لعام 2025، يعيش آلاف النازحين السودانيين في ليبيا، وتحديدًا في مدينة سبها بمحلة القاهرة، أجواء العيد بنكهة مختلفة، باهتة، ممزوجة بالألم والخوف، والحنين لما كان ذات يوم عاديًا وبهجته لا تحتاج لمجهود.

بين الخيام والمنازل المؤقتة، يحاول النازحون التكيّف مع واقع جديد لم يختاروه، يعيدون ترتيب حياتهم على وقع الغربة والحرمان، ويبحثون عن بارقة أمل، ولو صغيرة، تعيد لهم شيئًا من بهجة العيد.
في هذا التقرير، نقترب من أصواتهم وننقل حكاياتهم كما هي، بأسمائهم وآلامهم وتفاصيلهم التي قد لا تصل إلى عناوين الأخبار، لكنها تسكن القلوب.
آدم إسحاق: “نحمد الله… لكن العيد له طعم آخر في الغربة”
آدم إسحاق، أحد النازحين من السودان، يبدأ حديثه ببساطة المؤمن الذي لا زال يتمسك بالأمل رغم الوجع: “الحقيقة، المؤمن يرى مصاب الدنيا بهذا الشكل، نحمد الله على العافية والسلامة، وكل ما يجري هو أمر من الله. نحن نؤمن أن ما عند الله خير، ونتوقع من ربنا الخير دائماً.”
يتحدث آدم عن الاستقبال الذي وجده في ليبيا بامتنان واضح:”ليبيا بلد جار، وفعلاً شعرنا أننا بين أهلنا. من المعسكرات إلى البيوت، الناس ما قصروا معنا، المعاملة أخوية، وربنا يجزيهم خيرا.”
لكن حين يُسأل عن الدعم الإنساني، يُظهر الواقع صورة أقل إشراقًا:
“الهلال الأحمر والمزاد قدموا مساعدات، لكن التوزيع عشوائي أحياناً، لا يوجد تنظيم واضح. هناك ناس تستفيد، وناس لا يصلها شيء. نتمنى أن يكون هناك نظام يحصر الأعداد، حتى التوزيع يكون عادلا.”

وحين سألناه عن روح العيد وسط هذه الظروف، أجاب بصوت خافت:
“العيد مناسبة عظيمة للمسلمين، نحمد الله على ما نحن فيه وندعو أن تكون الأعياد القادمة أفضل. نحاول أن نحتفظ بروح العيد، نهنئ الناس، ندعو بالخير، ونقول إن شاء الله ربنا يغير الحال.”
لكن الحاجة ظاهرة في كلماته:
“السكن أكبر مشكلة. نحن تنقلنا من بيت لبيت، لا يوجد استقرار. وأيضاً الماء والكهرباء يعانون. نعيش يوما بيوم، لكن نتعب كثيراً في أشياء بسيطة.”
في رسالته الأخيرة، لم ينس آدم أن يشكر من وقف معهم، لكنه خاطب المنظمات الإنسانية بنداء صادق:
“نحن نهنئ الأمة الإسلامية بعيد الأضحى، وندعو الله أن يبدل الحال إلى أفضل. ونتمنى من المنظمات أن تنظر إلينا بعين أكثر رحمة، فالوضع يحتاج لمساعدة حقيقية.”
مروة النور: “العيد في السودان كان جنة… أما هنا فهو ذكرى موجعة”
مروة النور، نازحة أخرى، تتحدث وحنينها يسبق كلماتها.
“العيد في السودان كان جنة حقيقية. ثلاثة أيام نقضيها في بيت العائلة، بيت الأصدقاء، ثم بيوت الأخوات. كان للعيد طعم، وللحياة طقوس.”
لكنها الآن في سبها، والفرح لا يجد مكاناً بين الخيام والجدران المؤقتة:
“هذا أول عيد أضحى لنا بعيداً عن السودان. لا نعرف كيف نحتفل، والوضع صعب لا يساعدنا أصلاً.”
رغم ذلك، تحاول مروة ورفيقاتها خلق مساحة صغيرة للفرح:”بقدر المستطاع، نساعد بعضنا ونطبخ الأكلات السودانية.
نحاول خلق أجواء العيد ولو بسيطة، حتى لا نحرم أطفالنا من الإحساس بالعيد.”
وتضيف بنبرة حزينة:”المعيشة صعبة جداً، الدخل بسيط، والذي نشتغله يكفينا الأكل والشرب بالكاد. لايوجد فائض لنشتري به ملابس للأطفال أو حاجيات خاصة.”
رغم هذه الظروف، تقول إن هناك جهات لم تقصر،”منظمة الهلال الأحمر لم تقصر، وأهل سبها طيبين ساعدونا كثيرا. لكن نحتاج دعما مستمرا، خاصة في الطيوري، الوضع هناك مأساوي.”
وعن الأضحية، أجابت بكل واقعية:
“لا، ليس هناك أمل لنشتري أضحية. كل يوم نكافح من أجل تأمين الأكل. الأضحية صارت حلما.”
تختم مروة حديثها بنداء للمنظمات الإنسانية:” نتمنى من كل المنظمات أن تنظر إلى حال النازحين، خصوصاً الموجودون في المخيمات. ناس لهم سنوات بدون حتى أوراق، بدون أمل. نحتاج لدعم مادي فعلاً، أكثر من الغذائي.”
مناهل علي: “العيد فقد طعمه… وأطفالي يسألونني عن ألعابهم الضائعة”
أما مناهل علي، فتروي تفاصيل أكثر قسوة، عن حرارة الصيف، وانقطاع المياه، والخوف الدائم على الأطفال:
“العيد هناك له نكهة لا توصف. اليوم الأول في بيت الجد، الكل يلتقي، أضحيات، زيارات… أما هنا، فالغربة سرقت منا كل شيء.”
تعيش مناهل في ظروف قاسية داخل المخيم، وتصف الواقع بمرارة:”الماء مقطوع، الجو حار بشكل لا يُطاق، ولا توجد مكيفات ولا مراوح. أطفالنا تعبوا، ونحن معهم.”
أما عن الأضحية، فتضحك بمرارة:

“لا، مستحيل. سعر الخروف يتجاوز إمكانياتنا. نحن بالكاد نشتري الحاجات اليومية.”
وحين سألناها عن أطفالها، غالبت دموعها:”يسألوني كل يوم: أين ملابس العيد؟ أين ألعابنا؟ كنا قبل العيد بأيام نجهز كل شيء، لكن الآن حتى الرد بسيط عليهم لا نملكه. نحاول أن نواسيهم بالكلمة الطيبة، لكن أثر الغربة كبير.”
مناهل، كغيرها، تشكر من ساندهم، وتطلب من البقية أن لا ينسوا من في الخيام:”الهلال الأحمر لم يقصر، لكن نتمنى من باقي المنظمات زياتنا، ينظروا إلى الناس، يلمسوا الواقع، ويقدموا ما يستطيعون. المساعدة المادية أهم من العينية حالياً، لأن الاحتياجات كثيرة.”
“نكذب كذبة العيد كي نُفرحهم“
خديجة عمر، نازحة تقيم في حي الطيوري بسبها: “منذ خروجنا من ديارنا بسبب القصف، لم نعرف طعم الأعياد كما كنا نعرفها في السودان. كانت أيام العيد في نيالا تمتلئ بالحياة والضجيج الجميل، بعبق البخور وصوت التكبيرات يملأ الأجواء. كنّا نستعد منذ أسابيع، نجهّز الملابس، نخبز الكعك، ونجتمع حول الأضحية ونحن نضحك. أما هنا، في سبها، نحاول أن نخلق شيئًا من الفرح لأطفالنا، نكذب كذبة بيضاء لنهديهم وهمًا اسمه ‘العيد’. نطهو العصيدة إن توفّر دقيقها، ونشوي القليل من اللحم إن تسنى لنا شراؤه، لكن الفرح الحقيقي لا يُصنع بالطعام وحده، بل بالسكينة والطمأنينة، وهما ما فقدناه منذ اشتعلت الحرب.”
“العيد صار مرآة للفقد“
محمد آدم ، نازح من الخرطوم، فقد والده في بداية الحرب “كان آخر عيد أضحى قضيته مع والدي في الخرطوم في عام 2022. لا زلت أذكر كيف كان يضحك عندما كان يوزع اللحم بنفسه على الجيران، ويعلّمنا أن العيد لا يكتمل دون صلة الرحم. بعد اندلاع الحرب، فقدته في إحدى الهجمات ولم أتمكن حتى من وداعه. جئت إلى سبها وفي قلبي خُرم لا يسدّه شيء. أعمل في البناء، أستيقظ يوميًا قبل الفجر لأعيل إخوتي، لكن العيد يظل لحظة مواجهة مع الذاكرة. لم أعد أرى في هذا اليوم سوى مرآة لحجم الفقد الذي نحمله. العيد لم يكن يومًا مجرد خروف يُذبح، بل لحظة احتضان نادرة للأسرة، وأنا فقدت حضني الذي كان يحتويني.”

“أخجل من سؤال ابنتي عن العيد“
عواطف عبد الله ، معلمة نازحة من أم درمان، تقيم في محلة القاهرة بسبها
“كنت أعلّم الأطفال في مدرستي أن العيد مناسبة للسلام والتسامح والفرح. لكن الحرب جعلت من العيد امتحانًا لصبرنا وليس مناسبةً لفرحنا. أعمل هنا في سبها مع بعض العائلات في تعليم الأطفال النازحين، نحاول أن نُبقي الأمل حيًا، لكننا نحن الكبار نكاد ننساه. في كل عيد، تسألني ابنتي الصغيرة: ‘أين ثوب العيد؟ لماذا لا نذهب لصلاة العيد كما كنا نفعل؟’ وأجد نفسي عاجزة عن الإجابة. لا أريد أن أعلمها أن العيد صار رفاهية، ولا أن أزرع في قلبها الإحساس بالحرمان، لكن الحقيقة أن الحرب سرقت منا هذه الطقوس البسيطة. حتى ابتسامة العيد صارت شحيحة، لأن القلب مثقل بالخوف والقلق من الغد.”
“نقول لهم سنذبح.. ولا نذبح“
عبد العزيز موسى، نازح من الجنينة، يعمل في سوق سبها “في الجنينة، كنا نعيش العيد وكأنه مهرجان محبة. كانت الأضاحي تُجهّز في الساحات، والجيران يتبادلون الطعام والكلمات الطيبة. هنا في ليبيا، ورغم الأمن والأمان، أشعر بالغربة في كل تفاصيل العيد. أبيع الخضار في السوق، وأعود منهكًا لأجد أطفالي يترقبون شيئًا لا أملك أن أقدّمه. يقولون لي: ‘بابا، هل سنذبح هذا العيد؟’، فأخفض رأسي. الحرب لم تقتلنا برصاصة، بل قتلتنا بالبُعد عن كل ما كنا نعرفه كحياة. لا أستطيع إلا أن أتمسك ببصيص أمل، وأقول لهم: إن شاء الله سنرجع، ونذبح، ونفرح كما كنا. لكني لا أدري إن كنت أقولها لهم أم لنفسي.
لكن المعاناة ليست فقط في تفاصيل الحياة اليومية، بل في غياب الدعم المؤسسي والاهتمام الرسمي، كما يؤكد مختار محلة القاهرة، عبدالسلام شاي حسن، مختار المحلة في بلدية سبها، في تصريح شامل يبرز حجم التحديات والأوضاع المأساوية التي يعيشها النازحون السودانيون في محلة القاهرة (الطيوري):”لا توجد أي مبادرات من قبل السلطات المحلية، والأوضاع صعبة جداً. تسمع عن التوطين وتمكين اللاجئين في المدن وخاصة في محلة القاهرة، وهذا أمر خطر على الدولة.”
ويضيف: “لا توجد أي مساعدات من أي جهة. نحن قمنا بإجراءات وتقارير ومذكرات إلى جميع الجهات، ولكن لا حياة لمن تنادي.”

ويطالب المختار الجهات الحكومية والأمنية قائلاً: “نحن سكان المحلة نطالب الحكومة والأجهزة الأمنية أن تنقل اللاجئين إلى مكان آخر، فالأوضاع في محلة القاهرة (الطيوري) لا تليق بكرامة الإنسان.”
ويشرح بعض جوانب الأزمة: “هناك جانب صحي مهم جداً، فهناك ناس مرضى مصابون بأمراض مزمنة. وأيضاً الجانب الأمني، حيث أصبح المكان وكرًا لتجار المخدرات، والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى الجانب الأخلاقي.”
ويصف الوضع الإنساني قائلاً: “مكان تواجدهم حالياً داخل مكب القمامة. الوضع كارثي بمعنى الكلمة.”
ويختم رسالته بنداء: “نوجه رسالة إلى الجهات المعنية والمجتمع الدولي أن يتحملوا مسؤوليتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه اللاجئين السودانيين في مخيم الطيوري. الوضع العام للنازحين نصفهم في وضع كارثي. التحديات كثيرة، خاصة في الجوانب الصحية والبيئية وانتشار الأمراض.”

ويؤكد: “ليس لدينا أي تنسيق أو تواصل مع أي جهة، سواء محلية أو دولية، ولا توجد آلية أو دعم. ولا توجد أي مساعدات تصلهم بشكل مستمر ومنتظم.”
بين ركام الذكريات وحطام الأماني، يأتي العيد على النازحين السودانيين في ليبيا كضيفٍ ثقيل، يحمل من اسمه الفرح، لكنه لا يوزّعه. في شهادات آدم،و مروة، و مناهل، وخديجة، وفي وجوه مئات العائلات المنتزعة من جذورها، يتجلى المعنى الحقيقي للمأساة: أن تفقد وطنك، لا فقط كخريطة وحدود، بل كذاكرة وعيد ومائدة وضحكة.
منذ أن اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023، والنازحون يحاولون جاهدين إعادة تشكيل العيد من فتات ما تبقى. أضحيات مؤجلة، وملابس عيد غائبة، وأطفال يحفظون أسماء المدن لا الأناشيد. في سبها، وغات، ومناطق الجنوب الليبي، تتوزع الأسر على الأمل كما تتوزع على الخيام والمنازل المؤقتة، يحاولون رسم فرحٍ مؤقت على وجه العيد، بينما الحقيقة تُكذّب المظاهر.














