كتب :: عمر عبد الدائم
في لحظةٍ استثنائيّةٍ من الزمن الذي نسميّه العُمُر ، وفي محطّةٍ غير اعتياديّةٍ على طريق الحياة ، يَمُنّ علينا القَدَرُ بصحبةِ رهطٍ نجدُ فيهم سلوتنا وعزاءنا ، فيكونوا لنا بذلك وطنٌ في غُربة الرّوح ، و سَكَنٌ في سِنِيّ التّيه ، و واحةٌ ظليلةٌ فيحاء في زمهرير الواقع المُحبِط ، فتَشُدّ إليهم الرّحالَ القلوبُ قبل خُطى الأرجلِ ، و تتّخذهم الأرواحُ حجّاً و قِبلةً ، ويكون الحديثُ معهم أملاً وغايةً .
أقول هذا ، و قد تذكّرتُ تلك الأمسياتِ الجميلةِ التي جمعتني بهما ، فعِشقُنا للّغةِ العربية قرّبَ أمزجتَنَا ، والإبحارُ في عوالمِ الشّعرِ و الأدبِ صهرَ قلوبَنَا في بوثقةٍ واحدةٍ ، حيثُ كُنّا نلتقي والشّمسُ تطبعُ قُبلتها الأخيرةَ على جبينِ الأرضِ قبل أن تخلُدَ لنومِها اليوميّ ، كُنّا نلتقي في ذلك الموضِعِ القَصيّ من المدينةِ ، في استراحة أقيمتْ على قِمّةٍ جبليّة تُشرِفُ على مدينة سبها من جهة الجنوب تُسمّى “فندق الجبل” ، كُنّا نهربُ بِشِعرِنا قبل ذَواتِنا ، لإقتناصِ تلك اللّحُيظاتِ المليئةِ بالشّجّنِ ، المسكونةِ بخيالاتِ الشّعرِ و غُربتِهِ و موسِيقاه ، كُنّا نجلسُ ثلاثَتُنا ، نرقُبُ عن بُعْدٍ تلك المدينةِ الغارِق اهلُها في التّفاخُرِ الزائفِ ، والثأر ، وحميّةِ الجاهليّةِ الأولى .
كُنّا نلتقي ، وكلٌّ مِنّا يحمِلُ غربته بين أضلاعِهِ ، آمِلاً في غدٍ يملأ النّاسَ حُبّاً و شِعراً ..
المُجتَبَى ..
أحمد المُجتَبَى .. ذلك الأسمر الحنطيّ ، الرّصينُ كقصائدِهِ ، الهادئ كقطعةٍ من سكون الأصيل ، يُنشِدُنا بحُسنِهِ و حُزنِهِ البَهيّ تغريبة ” أبن زُريق البغدادي” :
لا تَعـــذليهِ فــإنّ العـــــذلَ يُولِـعُهُ ** قد قُلتِ حَقّاً ولــكن ليس يسمَــعُهُ
جاوزتِ في نُصحِهِ حَدّاً أضَرّ بِهِ ** من حيثُ قَدّرتِ أنّ النّصحَ ينفَعُهُ
فاستعملي الرّفقَ في تأنيبه ، بدَلاً ** من عنفه ، فهو مُضني القلب، مُوجَعُهُ
قد كان مضطلعاً بالخطب ، يحمِلُه ** فضُلّعت ، بخطوب البينِ ، أضلُعـه
ما آب من سفَرٍ ، إلا و أزعجهُ ** عزمٌ إلى سفرٍ ، بالرُّغمِ يُزمعـه
كأنَّما هو في حلّ و مرتحـلٍ ** موكَّل بفضاء الله ، يذرعــــه
ويصل الحزن ذروَتَهُ و روعتَهُ حينما يصل المُجتبى بقراءته البارعة إلى الأبيات التالية من قصيدة بن زُريق :
أستودِعُ الله ، في بغداد ، لي قمـرا ** بالكَرخِ ، من فلَكِ الأزرارِ ، مطلعُه
ودّعته ، و بودّي لو يُوَدّعنـــــي ** صفوُ الحياة و إنّي لا أُودّعــــــــــــــه
وكم تشفّع بي أن لا أفارقــــــه ** و للضّرورات حالٌ لا تُشَفّعُــــــــــهُ
وكم تشبَّثَ بي ، يومَ الرّحيل ضُـحى ** و أدمُعي مستهلَّات ، و أدمعـه
لا أكذِب الله ، ثوبُ العُذرِ منخــــرقٌ ** منّي بفرقته ، لكن أرقّعــــــــه
ثمّ يتكلّم الحجّار ..
محمّد الحجّار .. القادِمُ من مدينةِ إبي العلاء ، تشرّبَ المعرّي و شِعرَه ، وقف أمامَ قبرهِ و ناجاه ، أوصاهُ المَعرّي فحفِظ الوصيّة …
وبعد أن يُنشدنا بعضاً من خُماسيّات الشّعر العربي و يُحدّثُنا عن زياراتِهِ للمعرّي و حديثهِ معه ، وهو المسكونُ بعروبتهِ الجريحةِ ، يقولُ مُتَنهّداً :
ويح العُرُوبة كان الشّرقُ مسرَحَها
فأصبَحَتْ تتوارى في زواياهُ
تَمُرّ الأيام ، وأغادِرُ شمالاً ، ويغادِر المُجتبى لأرضِ النّيل طلباً للعلم ، ويبقى الحجّارُ في سبها ، تتقطّع بيننا السّبُل والأخبار عدّة أشهر ، لأجد ذات يوم رسالة نصّية في هاتفي من مصر تقول :
أين الأحبّةُ لا عينٌ ولا أثرُ ** لم يأتِنا أبداً من نحوهم خبَرُ
طِرتُ فَرَحاً ببيت المُجتبى فرددتُ عليه من فوري بهذا البيت :
الليلُ يشكو سُهادَ العينِ مذ رَحَلوا ** و القلبُ مِن شِدّةِ الأشواقِ يَعتَصِرُ
ومنذ تلك اللحظة أصبحنا “نتراشق” بأبيات الشعر تناوباً فيما بيننا ، دون أن ندري أننا اشتركنا في كتابة أكثر من ثلاث قصائد كاملة ، للأسف ضاع مُعظمها ولم أوّثقه ، وحتى لا أفسد على القارئ مُتعته سأكتفي بوضع حرف (م) أمام الأبيات التي كتبها أحمد المُجتبى ، و حرف (ع) أمام ما كتبتُ من أبيات .. على أن أتابع ما تبقّى من قصائد في عددٍ قادمٍ بإذن الله .
القصيدة الأولى :
م/ أين الأحِبّــةُ لا عيــــنٌ ولا أثَـــرُ ** لم يأتـــِنا أبـــــداً من نحوهم خَبَرُ
ع/ الليلُ يشكو سُهادَ العينِ مُذ رحلوا ** والقلبُ من شِدّةِ الأشواقِ يعتَصِرُ
م/ نفسي تـتوقُ إلى الأحبــابِ هائمةٌ ** ماذا أقولُ و نارُ الشّوقِ تســــتعِرُ
ع/ يا ويح قلبي هنا كانت مساكنهــم ** عبيرُ ذكراهمُ مازال ينتشـرُ
م/ ما في الحياةِ كمثل الحب يجمعنا ** إنَّ الحياةَ مع الأحباب تزدهــرُ
م/ أصبّر النّفسَ وهي غير صابـرةٍ ** وأمنع الدّمع أن يجري فينهمــرُ
ع/ و أحشدُ العزمَ راياتٍ و ألويـــةً ** فيهزمُ الشّوقُ ما أبني و ينتصـرُ
م/ أحبّة الرّوح أضناني تذكرهــــم ** متى اللّقاء فيمضي الهمُّ و الكـدرُ
ع/ لله درّ صِحابٍ طاب مجلسهــــم سِــحرٌ بيـــــانهُم ألفاظهــــم دُرَرُ
م/ نعم الرّفاقُ رفاقاً قلَّ مثَلهــــم ** قلبي لهم مسكنٌ و السّمعُ و البصـرُ
ع/المجتبي يجتبي شعراً فيُمتِعُنـــا ** والحرفُ يبني به الحجّار لا الحجـرُ
م/نفسي تحنُّ إلى الأحباب ما فتئتأين الألىٰ خالطوا الوجدانَ و انصهروا
القصيدةُ الثانية :
م- يهفوا الفؤادُ إلى الأحبّةِ مُغرمــــــا *** لو كان يمكنه الكلامُ تكلّمـــــــــا
م- أو كان يملك أن يطير إليهــــــــــمُ *** لرأيته يعلوا السّحاب محومـــــا
ع- يقتاتُ بالذّكرى و ينعش روحـــــه *** زمنٌ تولّىٰ بالوصال منَعّمــــــــا
م- ذكراكم منعت جفوني نومهــــــــا *** من لي بعهدٍ قد مضىٰ و تصرّما
م- أهديك من مِصرَ الغداة تحيّـــــــةً *** و رسولَ شوقٍ بالمودّة مُفعمـــــا
م- إنّي إذا هفتِ النّفوسُ لشخصكـــم *** زار الخيالُ و طيفكم قد خيّمــــــا
م- يا صاحب الذّوق الرّفيع تحيّـــــةً *** مُدَّ الجُسور قوافياً فلعلّمـــــــــــــا
م- يجد المسافر في مقالك سلــــــوةً *** تُنسي الهمومَ و تستحث المعجمــا
م- فيسيل نهرٌ بالقوافـــــــــي مترعٌ *** يروي نفوساً أوشكت أن تُهدمـــــا
م- مازلتُ مُنتظراً هلال أحبَّتــــــي *** سأظلُّ أرقبُ طيفهم لن أسأمــــــــا
ع- أتعبتني بالحبّ .. بل أخجلتنـــي *** و احسرتا عِقدُ القريض تصرّمــــا
ع- من أين لي بالشّعر يُنجِدُ كبوتـي *** و بناتُ أفكاري حيارىٰ لُوّمـــــــــا
ع- و لئن سقاني قربَكم شهد اللقــــا *** فاليوم جرعني البُعادُ العلقمــــــــــا
فسلامٌ على المجتبى ، وسلامٌ على الحجّار
إلى اللقاء..
(نُشِرتْ في صحيفة فسانيا)