أمّة الشعور بالذنب

أمّة الشعور بالذنب

   سعاد سالم soadsalem.aut@gmail.com

تَنّوَه 

” ما يشبه ترسب التجارب والمعرفة ” 

أن يصلك إشعار بالذنب تماما كما لو كان إشعارا بآوان دفع الفاتورة ،أو إشعار قرب انتهاء رصيد الانترنت أو الموبايل ، اشعار مزعج ، وهو يقصد ذلك، يقصد أن يجعلنا ننزعج بشكل أو بآخر.

توريث الشعور بالذنب، كما الثأر، غير أن الثأر فعل حاقد من قادر  ، فيما الشعور بالذنب هو شعور العجز ما يحوله في مواضع مختلفة إلى مشاعر تجلد صاحبها وتثأر منه فيتحول هذا العذاب وحسب رأيي إلى مشاريع عنف ضد الأضعف ، وتتراكم في النفس المرارة التي تظهر في صور ثأرية من عاجز ،وتتمثل في الكراهية، والتعصب، والغضب ، وحتى الخوف، وهى مشاعر ارتدادية يكنها الشاعر بالذنب لنفسه.

ولكن ما هو الشعور بالذنب؟

الذنب هو تحميل النفس مسئولية حدث أو أحداث أو حوادث، الشعور بالذنب هو الانسحاق تحت وطأة التأنيب، والإفراط في في تكليف النفس فوق ما تحتمل، ولو لاحقنا خيوط الشعور بالذنب، سنعرف أنها مثل الشعيرات الدموية في دقتها، وأهميتها أيضا لأنها تحطم حياتنا بصورة أو بأخرى، لأنها شعور مخزن، يتغدى باستمرار، وغالبا لانكون نعرف مصدر المرارة،ولكننا نعيشها وندور في دوامة من التعاسة، التي تترجم في صور مختلفة، كما وأن الشعور بالذنب يكون في الغالب مستتر في السلوك، وهنا خطورته.

والشعور بالذنب هو شعور بالندم، وشعور مختلط من الحسرة واستحالة إعادة اللحظة التي سبقت الندم، وهذا الشعور، لايكون مرئيا حتى للنفس، بل يختبئ في ماوراء الوعي، ويصرف في هيئة سلوك، غالبا ما يدعم فكرة الشخص السيئة عن نفسه،وذلك وفقا للمعايير السائدة في أي محيط ينتمي الواحد فينا إليه، وأعني ذلك حرفيا، أُسري، اجتماعي،عقائدي، سياسي،وهكذا، الدلالات للكلمات السائدة في بيئاتنا تدعم مشاعرنا السلبية تحديدا تجاه أنفسنا، وليس مستغربا أن نسمع عبارات من مثل، أني ماننفعش ما ننفعش، ومن هنا تبدأ كل قصص التاريخ الاجتماعي لشعب ما.

ولكن دعوكم من تفكيري الخاص و لنلقي نظرة حول ماهية الشعور بالذنب من وجهة نظر علم الاجتماع والذي رأيته أكثر قربا من علم النفس في ربط الشعور بالذنب بالسلوك (اللاواعي)، لأنه السبب الأساسي في كتابتي لهذا المقال، لذلك لفتني أثناء السؤال ما عبر عنه بوضوح  عالم الاجتماع جورج هربرت ميد، الذي يعتقد (أن الشعور بالذنب يتطور من خلال التفاعلات الاجتماعية بما يسمى “الذات الأخرية” (the generalized other). وفقًا لتعريفه، يكون الفرد متأثرًا بتوقعات وآراء المجتمع والجماعة المحيطة به، وهذا التأثير يشكل الشعور بالذنب، بمعنى آخر، الفرد يصبح على دراية بالقيم والمعايير الاجتماعية من خلال التفاعل مع الآخرين، ويطبق هذه القيم على نفسه، وإذا خالفها يشعر بالذنب.

وهكذا، يتطور الشعور بالذنب من خلال تبني الفرد لتوقعات وقيم المجتمع والاستجابة لها في تصرفاته وسلوكه.)*

وهو بالضبط ما يؤيد أفكاري بخصوص مكمن ما يقع علينا كأفراد من شحن يوماتي بمشاعر الذنب.

من أين يأتي الخطر؟

يأتي حسبما أرى من إيماننا كبشر في العموم بأننا كائنات سامية، هكذا مجانا،بمجرد خلقنا، ولكن فيما لو ارتقى وعينا سنرى أننا يجب أن نعمل على أن نتميز كبشر بالارتقاء بسلوكنا، وهذا ليس تنظيرا ،بل هو عمل دؤوب طور أنظمة حياة لمجتمعات أكثر تواضعا باعتبار أن البشر يحتاجون إلى ضبط سلوكهم بتجريدهم من صفات الملائكة ونزولهم على الأرض، ولكن في ذات الوقت لم تسمح بأن ينتمون للعالم السفلي، أعني باعتقاد الناس أنه وباعتبارهم ليسوا ملائكة فهم إذن شياطينا، فماذا سيخسر الشيطان، ويحضرني هنا المثل الليبي الحكيم عن اليأس من تحسن الذات أو الحالة: قالوا للقرد تو ربي يسخطك، قاللهم كونش بيردّني غزال.

نعم الشعور بالذنب المتواتر بسبب تصورات طوباوية عن الفضيلة، وعن الطهارة، وعن السعادة،وعن الحب، وعن الحرية،وعن الشرف ، والوطنية، والسيادة، والحياة ،وعن كل ما هو خيّر من وجهة نظر واحدة، إنما هي الفج الذي يسرب المي والثج كما كانت الحكمة تجري على لسان الليبيين.

السلطة 

في الأشهر الأولى من اللجوء ، تحتشد المشاعر بأنواع مختلطة من وطأة الذنب ومستتبعاتها من المرارة، لهذا يهتم المجتمع المدني بالاعتبارات الدينية، فتقوم الكثير من المجتمعات المحلية المسيحية في المناطق التي توجد بها مراكز اللجوء بتأمين الوصول إلى الكنيسة كل أحد، فكنت أنا وغيري ممن يدينون بالإسلام أو غيره نذهب بدافع الفضول والمشاركة وحتى تغيير المزاج، ولكن في ذلك المكان قرب درنته ، في الجزء المخصص للمتحدثين بالعربية من المسيحيين، لاحظت شيئا قد يعطي فكرة عما اعتبره وضع الله في مكانه الصحيح، حيث السمو، فيما يجعل الناس مجرد بشر احتمالات الخطأ واردة أكثر من الصواب ، وهذه طبيعة البشر فالخطأ يعلّمهم، وفي حال لم يتعلموا، يقع تعليمهم على عاتق الحكماء الذين صنعوا القوانين المدنية، حسنا تجربتي كانت جميلة حيث الغضب والاحباط والصراخ شيء يمكن أن نوجهه إلى الله، فهناك في الكنيسة يظهر الله بصفات الاحتواء والتفهم فيما تتربص العقوبات بالناس بمجرد خروجهم من قداس الأحد،لهذا لايركنون سيارتهم كما اتفق، ولايكسرون قواعد المرور في ذهابهم وإيابهم للصلاة، فالعلمانية ليست ببساطة وعنف مفردة الفصل بين الدين والسياسة، والسياسة هنا دلالاتها في اللغوة في منتهى البلاغة والحكمة، تتلخص في هذه الجملة : كل شيء بالمسايسة، أي خلق توازن ومرونة في تصريف شئون أفراد المجتمع والتي تشمل بدورها قوانين يضعها الناس ، لحفظ النظام وصون الكرامة، وتحول دون التعديات، في العلمانية والأنظمة الليبرالية، يسمحون فقط بالعقاب للدولة ،أما الله فيحتفظ وحده بتوفير الطمأنية وبأنه فقط هو مانحاول تمثله في القوانين المدنية، من عدالة، وسماحة، وأن يكون العقاب ردعيا وليس انتقاما، بمحاولة التشبت في التشريعات بالتسامح والحلم وهو مايعرف بروح القانون، ذلك القس في صباح يوم أحد من عام 2014 سمح لنا بالاسترخاء بأن طرح كل اسئلتنا الهيابة إلى الله، أين عدلك، أين رحمتك، لماذا لانراها، فشعرتُ شخصيا بتدحرج عبء تلك الصرخات الغاضبة في داخلي ، كما لو كانت احجارا ثقيلة كنت أحملها علي كتافي طوال الوقت، وفتتها بكائي.

في 2008 في فاجعة فقد خوي محمد، رأى الكثيرون أن حزني وكآبتي قلة إيمان، هكذا تفسر أمة الشعور بالذنب الألم، والضعف الانساني ، فلم أكتفي بالشعور بالذنب كأخت كبرى كان يجب أن تذهب هى لا هو الذي يصغرها بستة عشر عاما مقتولا، ولكن أيضا الشعور بالذنب من كوني كنت غاضبة من قدر محمد، ومن الله، ومن كل ممن يواصلون الحياة فيما هو تحت التراب، فما بالك بشعور مجتمع كامل، يوبَّخ ويَحمَّل المسئولية عن كل خطأ ، وأنه المسئول عن تعكير صفو الحياة بإغضاب الله، لهذا تفشل خطط الرفاه والتنمية، فيتدفق في ميكرفون الجامع الكلام عن الذنوب التي رفعت الأسعار ، فيما نادرا ما يضع الخطيب الله في مقامهُ الأسمى،جلّ وعلا، مشيرا للغفار التواب، وينصحنا بأن نخشى فقط قانون الجنايات وسلب الآخرين حياتهم أو خبزهم، أو طمأنينهم الروحية ، أو مبدأ التعايش.

_____ هل جربتّوا كلمة عندك الحق، كلما عنّ لأحدنا الغضب أو الشكوى أو الحزن أو البكاء. إنها مفردة تعاطف سحرية، غابت تقريبا من اللغوة، بسبب غياب المتعاطفين، وهذا أثر مرعب للشعور الطاغي والعام بالذنب.

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :