” أنتَ قُلْتَ ” … رواية الحب القاتل

” أنتَ قُلْتَ ” … رواية الحب القاتل

قراءة :: انتصار أبوراوي 

“أنت قلت” هى رواية كتبتها الكاتبة الهولندية كوني بالمن وقامت بترجمتها الشاعرة التونسية  لمياء المقدم، وصدرت هذا العام ضمن سلسلة الجوائز في الهيئة العامة للكتاب المصرية ، فى الرواية تحاول الروائية الغوص في عالم وتفاصيل أشهر ثنائي في عالم الشعر والحب الشاعران سيليفيا بلاث و البريطانى تيد هيوز .

كانت سيليفيا بلاث في الرابعة والعشرين من عمرها  في عام 1956 حين سافرت من أمريكا إلى انجلترا للدراسة في جامعة كامبريدج حيث التقت هناك لأول مرة بالشاعر الشاب  تيد هيوز الذي كان في بداية حياته ،وحدث بينهما انجذاب وقصة حب عنيفة انتهت بالزواج  واستمرا زوجين لمدة سبع سنوات، ولكن  العلاقة الزوجية بينهما كانت متطرفة ومضطربة بانفعالات غيرة سيليفيا وعبث الشاعر تيد هيوز  وحين اكتشفت الشاعرة  سيليفيا خيانة زوجها تيد طلبت الطلاق منه وبعد عام من طلاقهما  انتحرت بوضع رأسها في فرن الغاز في عام 1963 ،وتذكر الكاتبة الهولندية كوني بالمن في هامش بآخر الرواية بأن روايتها هى  سيرة ذاتية عن قصة الشاعرين ،جمعتها من خلال قراءتها ومتابعتها لنتاج الشاعرين، والديوان الأخير لهيوز والمجموعات الشعرية والرواية واليوميات التى تركتهن الشاعرة خلفها قبل انتحارها

الشاعر الانجليزى تيد هيوز الذى ظل صامتا طيلة حياته ولم يتحدث عن انتحار زوجته  يتحدث في هذه الرواية بصوت عال ومسموع، فالصوت الميهمن في الرواية هو صوت الشاعر بضمير المتكلم يروي خلال الرواية تفاصيل العلاقة المخفية فيشد أنفاس القارىء الذي يتابع السرد الجميل الذي تبدع الكاتبة فيه حيث تتقمص الكاتبة روح تيد هيوز وتتكلم عن مشاعر الشاعر  وأحاسيسه وأفكاره ،فالكاتبة منحته صوتا كي يعيد سيرة حكاية علاقة الحب والزواج التى استمرت لمدة سبع سنوات ،وكي يعيد النظر في شخصية زوجته المنتحرة الشاعرة سيليفيا بتحليل أعمق من نظرته الأولى وبداية معرفته بها التي كانت سطحية في البداية أو كما يقول الراوي تيد هيوز في مقطع من الرواية ( من عرفها ظاهريا لم يكن ليتكهن أبدا بأنها تخفى بداخلها مقاتلة شرسة وأنها أكثر بكثير من تلك الفتاة الأنيقة التي ترفع شعرها في ذيل حصان) ص28

ثم يسرد صوت الراوي وقائع لسيليفيا في تجارب خطيرة وقفت فيها أمام الموت وجها لوجه دون خوف بل وبرغبة جامحة به ،كل ذلك منح بداخله رغبة في حمايتها لإدراكه بهشاشتها الداخلية ، وكثيرا  ما يقطع الراوي تسلسل أحداث الرواية التى يسردها عبر صوت المتكلم الشاعر تيد هيوز ليحلل كل محطات العلاقة منذ بداية اللقاء الأول مرورا بيوم زواجه بها إلى آخر لحظة رآها فيها فيعمد أحيانا إلى تحليل ذلك  عبر مفاتيح كثيرة يحاول عن  طريقها فك  شفرة شخصية زوجته السابقة والأسباب الحقيقية التي قادتها للانتحار  ويستذكر  رموز وإشارات الأحلام التي راودته خلال معرفته بها وقبل أن يتزوجها والتي تحمل مضمون تحذيري من زواجهما حين يتحدث عن ذلك بالقول:

(كنت أصدق أحلامي وأبحث لها عن تفسيرات ،ودربت نفسي على تذكرها منطقة اللاوعي لدى الشاعر هى مخزن معادل  للمعرفة  في استعارات قديما قدم الزمن، وعليه أن يألفها ويتألف معها وعليه أن يجرؤ على  فك ألغازها  لأنها تملك حقيقته)

صوت الراوي الشاعر هيوز يسيطر على كل الرواية فى نفي تام لصوت سيليفيا ورؤيتها للعلاقة حيث جرد الراوي سيليفيا من حقيقتها المجهولة وصورها كامرأة مريضة ومحتالة حتى في كتابة الشعر ، وذلك في كلماته عنها في الصفحة  46  من الرواية “لم تكن تملك الكثير من الخيال فكل رموزها وصورها واستعاراتها المنمقة ابتاعتها بحرفية من مجلد روجيه”

يروي هيوز بطل الرواية تفاصيل الحياة اليومية ،المشتركة مع سيليفيا بعد زواجهما وعيشهما فى شقة صغيرة بلندن ،حيث عمل الشاعر مدرس لطلبة ثانوية وواصلت هي دراستها الجامعية العليا في جامعة كامبردج ، تلك التفاصيل الصغيرة التي توضح طبيعة علاقتهما الممتلئة عشق وحب ونشاط وحيوية ومشاركة في البيت وفى طباعة كتاباته الشعرية  و إرسالها لدور النشر، وتشاركهما في قراءة الكتب معا ومناقشتها  ثم يروي صوت الشاعر  تفاصيل الإرباكات التي حدثت لعلاقتهما نتيجة نفور أخت الشاعر تيد هيوز لسيليفيا والمعاملة الجافة السيئة التي قابلتها بها منذ أن تعرفت عليها ونوبات غيرتها وشكوكها المتوالية  .        مؤلفة الرواية كوني بالمن ترسم صورة الشاعرة سيليفيا فى الرواية كمخطئة ومتشككة دائما بينما ترسم  صورة الشاعر تيد هيوز ،وكأنه الحمل الوديع الذى يعاني من غيرة وشكوك زوجته دون أي تعاطف من كاتبة الرواية، لما عانته الشاعرة من ألم وكمد نتيجة نزوات زوجها والتي انتهت بالظهور الدراماتيكى للشاعرة “اسيا ملفيل ” فى حياتهما فكانت كالقشة التي قصمت ظهر الزواج وأنهته .

 حيث أعجب بها  تيد هيوز ووقع بغرامها وصارح زوجته برغبته في الابتعاد عنها وعن ولديهما ،لعيش تجربته الغرامية مع حبيبته الجديدة “اسيا ملفيل” وتعمدت المؤلفة أن تضع الإطار المجهول لما حدث فعلا بين الشاعر تيد هيوز وصديقة العائلة الجديدة الشاعرة اسيا ملفيل ،في إطار سردي يجعل القارىء يتعاطف مع خيانة هيوز ويضع لها مبررات ، فهى لم تمنح جانب من الرواية لما انتاب سيليفيا من قهر وألم وأحساس بالغدر والخذلان من زوجها الذى تزوجته بعد أن خاضت معه قصة حب رائعة وتشاركت معه فى زواج لمدة سبع سنوات، أنجبت خلاله بنت وولد بل جعلت صوت الراوي المهيمن على الرواية الشاعر تيد هيوز يضع الحجج والتبريرات     لا نتحارها بعيدا عن مسؤوليته تماما ،ولم تكتف مؤلفة الرواية بذلك فى دفاعها المستميت عن الشاعر بل إنها مرت بسرعة في سردها عن النهاية التراجيدية لزوجته التالية التى أنهت حياتها بالانتحار أيضا مع ابنتها بوضع رأسها بالغاز ، بنفس طريقة موت زوجته السابقة وذلك عبر أسطر مقتضبة  يتحدث فيها الشاعر عن الحادثة المفجعة بقوله ” بعد مرور سبع سنوات على لقاءنا الأول حاولت حبيبتى ليليث  المعذبة أن تحصل على حياة في مستوى حياة زوجتى السابقة عبر تقليد موتها بالحرف والانتهاء إليه وفى  الثالث والعشرين من شهر مارس 1969وضعت رأسها في الفرن وقتلت نفسها ومعها ابنتنا شورا ذات الأربع سنوات”

بأسلوب حيادي وقاس  تروي المؤلفة على لسان صوت الراوي تيد هيوز تفاصيل موت الزوجة الثانية بنفس الطريقة التي أنهت بها زوجته السابقة حياتها واضعة تفسير غير إنساني على لسانه بقوله :”بأنها رغبت بالموت والانتحار لأنها رغبت بالحصول على شهرة  زوجة زوجها السابقة  بعد انتحارها” وهو تفسير غير إنساني ومعبر عن رغبة ملحة لدى الروائية  لإيراد تبريرات لشخصية الشاعر تيد هيوز الغامضة التي أصابت لعنته كل امرأة أحبته  ولكن الرواية حسب مطالعتي ، لم تفلح بكل جمال وانسياب سردها بأن تهب القارىء تعاطفا مع بطل الرواية والصوت الراوي المهيمن على الرواية التى حاولت الكاتبة عبر استعارة صوته إيجاد  مساحة للتعاطف معه ،وتبرئته من مسؤوليته  فى المصير التراجيدى لكل إمرأة أحبها وأحبته بعنف ،لتبقى أسرار النهايات التراجيدية لنساء الحب القاتل والمسموم والمدمر لشاعر البلاط الملكى البريطانى ميتة ومدفونة مع أبطالها إلى الأبد.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :