قصي البسطامي
إن المرء لا يستطيع أن يضبط شعوره الخاص إلا من خلال اللغة، اللغة وحدها هي من تستطيع ذلك، تلك الأداة الضعيفة أمام تفسير العالم ، تعمل على ضبط شعور عالم الذات لدى كل إنسان يرى في اللغة ملجأ للتعبير عما يجول في خاطره من ألم وحزن وفرح وسعادة وبؤس واكتئاب وحيرة وقلق وتوتر وجفاف وفكر ودين – إنها أداة تضبط عالمنا الداخلي الذي يسكننا نعم، لكن ليس لها القدرة في ضبط نظام كوني يفوق مستواها المحدود، فأي عجز فيها ستفسره اللغة على كونها فوضى خلاقة لا مناص من اللحاق بها!
ومع ذلك فاللغة تعترف بلسان حال صاحبها، إن هذه الفوضى هي منظمة بطريقة أو بأخرى وتأتي من بعدها نتيجة يمكن أن نسميها نظاما تراتبيا أو خطيا أو هرميا أو أهليليا أو كونية أو تطوريا أو دائريا أو حلزونيا أو ذا أبعاد مختلفة ومتناسقة بطريقة تعجز اللغة عن فهمها بما يكفي.
إن كانت اللغة تضبط شعور المرء بنفسه فإن الفكر أيضا له ما يضبطه، فتوازيا مع خط الفكر نجد التأمل ، التأمل عملية ضبط وتوسيع وارتخاء وارتقاء بالفكر، وهو عامل يطلق العنان للروح الإنسانية في أن تسبح في فضاء الطبيعة فتتأمل الوجود وتنغمس فيه فتتحد معه بوحدة شبه متكاملة، فتغوص في أغوار الوجود كله وتريح المرء من عناء وجوده هنا، فيتغير مزاجه وتتغير طباعه ويتحسن تفكيره ويتصالح مع نفسه قبل أن يتصالح مع أعدائه في الفكر، ليس للتأمل عوارض جانبية بقدر ما للفكر من عوارض نفسية قاهرة من أمراض نفسية ووسواس قهري وقلق وتوجس وخوف وشك وقلة الثقة – إن لكل شيء بديلا يناسبه وبديل الفكر التأمل، فهو من يضبطه، أما الشعور الإنساني أو الإحساس الداخلي للإنسان، لا تضبطه إلا لغته، خاطبوا أقوامكم بلغاتهم ولا تقحموهم بكثرة التفكير ، ولا تبعدوهم بالابتعاد عن التفكير ولا تجنبوهم اللغة في التعبير فهي خلاصهم ومنتهى بؤسهم وسعادتهم وموتهم وحياتهم.