- محمد عمر غرس الله
تعرف المنطقة العربية – منذ عشر سنوات تقريباً – سجال حول وصف (ثورة) على غير ما عُرفت به الثورة ووقعها على المجتمع العربي، هذا الأمر يحتاج البحث والقراءة لما ألت اليه أوضاع منطقتنا من ماسي سُجلت تحت عنوان ثورة الربيع العربي، الأمر الذي تم سحبه حتى على التاريخ في إختلاف الأراء حول محطات تاريخية: هل هي ثورة أم إنقلاب ام إنتفاضة ..الخ، وراح كل تيار يصف حدث ما بما يعزز رأيه وموقفه، وإتسق في ذلك موقف بعض العرب مع ما يراه وتقدمه الدول الغرببية حيال ما يحدث، إذاً ماذا وراء ذلك؟ كيف، ولماذا؟، دعونا ترى
ظهر من بين العلوم الإنسانية علم الثورة الذي يفصل ويحلل ويحدد تعريف منهجي لوصف الحدث، إرتبط بحركة المجتمعات وحدوث التغيير فيها كأحد تجليات ما يُعرف بالتغير الإجتماعي (Social change) في حدث فاصل تخرج فيه الناس للشارع وتمارس فيه الجموع سطوتها وتحدث – بقيادة من بينها – التغيير المطلوب، ومع تطور البشرية عرف الخروج الثائر للشارع تاثيراً من أطراف خارجية تحصد نتائج وفق أهدافها، وتدفع هيجان الناس لتحقيق مأرب محددة فتجني نتائج تصب في مصلحتها، غير أن ثمة تعريف أخر للثورة يرتبط بالنتائج أكثر منه بالمقدمات، فيحدد: هل الحدث تعبير عن صوابية الفعل أم لا؟ وعموماً تبقى الأسباب المحلية والعربية والدولية مهمة في تحديد وصف الحدث هل هو ثورة أم مؤامرة، فكلما إرتفع منسوب الأسباب الخارجية قل منسوب الإيجابية في الوصف وصار في خانة التدخل الدولي، ومع هذا كله ومن خلال جرد تاريخي نجد أن وصف وتفسير الثورة في المنطقة العربية ظل متأثراً بثلاثة ثورات:
الاول: ثورة 23 يوليو 1952م: والتي أخذ فيها وصف الثورة إرتباطاً بما تم تحقيقه للمجتمع والشعب تباعاً من تأميم قناة السويس وطرد القواعد الأجنبية، وتاميم الموارد وتوزيع الأراضي على الفقراء وإتباع سياسة عربية تمثل إرادة الاستقلال والتحرر العربي في مواجهة العدوان الثلاثي (فرنسا – بريطانيا – الكيان الصهيوني) وطرد الإستعمار الفرنسي من الجزائر بدعم الثورة الجزائرية 1954 – 1962م، هذه الثورة تُعد متسق او هي في شيئاً منها مرجعية لما حدث في اليمن 1962/ 1967م، والعراق وسوريا، وليبيا في الفاتح من سبتمبر 1969م، وتعبيرها عن إرادة الأمة العربية كوحدة واحدة، وكتطور عن حركة التحرر العربي من المحيط للخليج.
الثاني: الثورة الإيرانية 1979م: والتي كانت تعتبرها تيارات الإسلام السياسي عربياً مثالاً للحركات الإسلامية في تحقيق مطالب الشعب بما فيها موقف قادتها من الإمبريالية الغربية وإغلاق سفارة الكيان الصهيوني وتسليم مقرها لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنع الهيمنة الأمريكية والبريطانية على الشعب الإيراني الشقيق، والعمل على الإستقلال الوطني وبناء مصادر إقتصادية وعسكرية ذاتية، هذه الثورة التي عمل الغرب – في مراحل لاحقة ولأسباب إستراتيجية – على تصويرها ثورة شيعية موجهة ضد السنة العرب، في إطار صنع قومية سُنية متحالفة معة الكيان الصهيوني عبر خلق وتصنيع وتوهيم عداء بين إيران والعرب وتطويره مع الزمن بما يخدم الهيمنة الغربية ويحقق لها جندي إقليمي يحارب إيران نيابة عنها، ويمنع توافق الإرادة الإسلامية في الإقليم لمواجهة الهيمنة الغربية.
الثالث: الثورة الفرنسية، والتي يتم تقديمها عربياً في إطار مناهج الأورومركزية (الليبرالية)، عبر خلط الأوصاف والمصطلحات فيما يتعلق بالفصل بين السلطات، والتحلل من القيم الدينية، ومن ناحي أخرى وضع وصف الثورة الفرنسية في أفواه العامة الذين لا يفقهون كنه ما يرددون في الإعتقاد بتماثل ما حصل في فرنسا مع ما يجري في منطقتنا وإسقاطه عليها، وترديد ذلك بدون أدنى وعي.
هذا ويبدو تلبيس الأحداث التي إندلعت مع بداية عام 2011م وصف (ثورة الربيع العربي) تم فيه الخلط بين أسبابها بالمزج بين واقع الدول العربية التي شهدت ما جرى (تونس – مصر – اليمن – ليبيا – سوريا)، وهو ما خدم تحقيق الأهداف من الأطراف الدولية التي إن لم تكن قدم خططت فهي كانت جاهزة لإستغلال ماحدث، وفي هذا تم تعميم وصف (ثورة) وجعله في أفواه العامة وبصخب، ورغم ذلك لم يقبل – العقل الباطن عربياً – أن توصف الأحداث بأنها ثورة، خاصة تلك التي شارك فيها برنار ليفي والسيناتور الأمريكي جون ماكين وتثمين من رؤساء الدول الأوروبية، وبمشاركة قوات وقصف طائرات حلف الشمال الأطلسي، وهو ما إنتهى بتسليم الأوطان للتنظيم العالمي للأخوان المسلمين والجماعات الإرهابية المسلحة من داعش وأخواتها وبناتها بإشراف ضباط أوروبيين ومبعوث الأمم المتحدة وسفراء الدول الغربية.
وفي هذا كله يتم عمل مقصود لإعطاء مفهوم بعيد عما تعنيه (الثورة) في المجتمع العربي وقطع إرتباط الوصف ومدلوله بما سارت عليه ثورة 23 يوليو ومن نسج على منوالها في المنطقة العربية، وتم في هذا عمل كبير جداً بمنظومة عمل مركزة ومنسقة لم تترك شيئاً لم تستغله في سبيل محاربة ومعاداة وتشويه وتحقيق الحرق والإغتيال المعنوي لمدلول الثورة الناصري (نسبة للزعيم جمال عبد الناصر) وحرق وإغنيال معنوي لكل القادة والشخصيات الذين قاوموا الهيمنة الغربية وحاولوا تحقيق إرادة وطنية وعربية مستقلة وواحدة، وتم ذلك عبر تظهير أعداء ووكلاء محليين لسياقها شاركت فيه أحزاب وتنطيمات ودول عربية، لمنع تكرار ما أحدثته ثورة 23 يوليو وما أحدثه الذين نسجوا – على منوالها العربي – خطواتهم التي كان سياقها التاريخي طرد القواعد وتاميم النفط وإستعادة السيادة والدعوة للوحدة العربية والعدالة الإجتماعية ومحاولات بناء إقتصاد وطني وإقليمي مستقل.
أن الإلتباس في وصف الأحداث بوصف (ثورة)، يحتاج تأصيل معرفي في إيجابية النتائج أكثر منه في (شرارة الفعل كثورة بركان يدمر ما في طريقه)، غير أن التأصيل الإيديولوجي يذهب إلى مسار أخر، ويحول موضوع المفاهيم إلى صراع تنافسي فيمن يسحب على نفسه إيجابية الفعل بغض النظر عن مأساوية المسار والنتائج، وفي هذا ليس ثمة عامل داخلي يمكن الإحتكام له، فالرأي العام اليوم بفعل العولمة يقع تحت تأثير وسائل الإتصال القوية (السمعي بصري) التي تصنع الإنطباع الشعبي العام عبر نظريات التحكم في (المتلقي والمشاهد والمتصفح) والتأثير عليه وقيادته وتوجيهه، فالمعرفة لم تعد بنت القراءة وحدها، والحمائية الوطنية التي كانت توفر للكتاب والثقافة الوطنية والراديو وحتى التلفزيون الوطني فرصة بناء التصورات الفكرية والثقافية وتعبر عن المجتمع – إنتهت أمام العولمة التي صار فيها تأثير من خارج الحدود اكثر وأمضى وأقوى حتى على الجتمعات المحلية بل والأُسرة نفسها، فالسمعي بصري اليوم خطف كل شي، خطف الأبناء من أبائهم، والتلاميذ من تأثير مدارسهم، كما خطف الشعوب من تخبهم المحلية، وحول هذه القطاعات العريضة إلى جنود وسيل هادر بل وتسونامي يجرف ويدمر أوطانه ويذبح أهله ويحول المدن والقرى إلى مسارح للدم والخطف والتدمير وهو يهتف بالثورة كما رأينا في ليبيا وسوريا، بدلأ من فعل ذلك لمواجهة الهيمنة والتدخل الخارجي، إنها بوضوح إشكالية الثورة فهل ثمة تعريف واحد للثورة في كل العصور والمراحل.
في الحقيقة أن جملة من المصطلحات والأوصاف تم الإستيلاء عليها من واقع وتاريخ شعوبنا ووضعت على طريق أذرع النهب الدولي تخدمه، فــ(الجهاد) لم يعد جهاد الليبيين ضد الطليان، فلم يعد جهاد عمر المختار وسلطان باشا الأطرش وجهاد الشيخ ماء العينين وجهاد الدغباجي وعلي الشنطة، وجهاد الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ بوعمامة وجهاد جبهة التحرير الوطني الجزائري في مواجهة الإستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني، بل صار جهاد عبد الله عزام وأُسامة بن لادن والزرقاوي وأبوقتادة والجولاني والقرضاوي والعريفي والصلابي وسلمان العودة بمعية أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية، وبمعية برنار ليفي ومخابرات أميركا وبريطانيا وبمعية قاذفات حلف شمال الأطلسي، لقد صار الجهاد هو أن يُهجر السوريين من بلادهم وتقتلهم الجماعات الإرهابية في قراهم وتذبحهم وتدمر منازلهم وأن يبيع جماعات داعش نسائهم وبناتهم، والجهاد لم يعد الشرف بل صار جهاد النكاح جهاراً نهاراً وعلى الأشهاد، والجهاد صار في طرابلس الغرب ودرنة وبنغازي وأدلب وحلب وعين العرب يغطيه مبعوث الأمم المتحدة ويدعو له الرئيس التركي وتبرره البي بي سي وقناة الجزيرة وتموله إمارة قطر وتحمل الطائرات والسًفن التركية جماعاته من بلد لأخر وبمجاهرة وتبجح من ألرئيس التركي أردوغان أمام سمع وبصر العالم.
وفي هذا فإن (الثورة)لم تعد بنا وتعمير مشاريع زراعية وإسكان وتأميم للنفط وإستعادة السيادة الوطنية، بل صارت الجلوس أمام الجنرال الإيطالي ديليسيرا يدير طرابلس الغرب وتدمير مطار طرابلس العالمي بطائراته وتمكين داعش من درنة وسرت وتمكين التنظيم العالمي للأخوان المسلمين من السيطرة على البنك المركزي الليبي، وصارت الثورة تعني تجميع أكثر من 150 ألف مرتزق من كل أنحاء العالم وإدخالهم لسوريا عبر تركيا والأردن لقتل السوريين في ديارهم ونهب وسرقة أكثر من 25 ألف مصنع ومعمل من مدينة حلب السورية، بتمويل خليجي يفوق عشرات المليارات، فالثورة صارت وفق ترتيبات هذه المرحلة عمل وفق إستارتيجيات الدول الغربية وأهدافها.
و(الحرية) لم تعد قيمة (الحر) الشهم العفيف البعيد عن الموبقات، بل صارت تعبير عن الشذوذ الجنسي والمثلية، وتعبير عن الإنجاب خارج المؤسسة الزوجية والمجاهرة بالإفطار في شهر رمضان علناً، وصارت تعني التحلل من نفوذ الأوامر والنواهي القرأنية، وصارت ايضا معاداة للغة العربية لغة القرأن، وصارت تعبير عن التحلل من القيم الإجتماعية، كما أن التقدم والعصرنة صار في الإنتظام في منظمات تابعة للمخابرات الدولية تحت عنوان منظمات المجتمع المدني، وصارت الثورة والديموقراطية هي تقديم الوثائق والمعلومات الوطنية والإرشيف الوطني للمخابرات الدولية، وتدخل الدول الأوروبية حتى في خصومات القبائل في بلداننا.
إنه صارع المصطلحات والأوصاف والمنهجيات، التي تجعل المواطن البسيط في حالة هيجان حاد لا تعرف مالذي أصابه، حتى أصبح يرى إيجابية إدخاله لضباط المخابرات الدولية لبلاده يقود بهم السيارة ويأويهم في قريته ويقدم لهم الأكل من يد زوجته وأوخواته، ويفاخر أمامهم بتدمير بلاده وفتح أبوابها لهم وتمكينهم من كل شيء.
أن الأمر يحتاج الباحثين المتخصصين ليقدموا في هذا جهودهم البحثية لمعرفة تفاصيل ماحدث وكيف حدث ولماذا حدث ويعملوا على التأثير على الشارع العام فكرياً وثقافياً، فمشارط السوسيولوجيا الكولونيالية أخطر بكثير من قصف القاذفات والبوارج، حيث أن تأثير القنابل يمكن تحديده وإعادة بناء ما تم تدميره بالإعمار، بينما ما تفعله المنهجيات يضرب العقول ويخربها ويحول الإنسان في وطنه إلى تابع بل وأداة ولسان ويد لأولئك الذي صنعوا وبرمجوا تلك المنهجيات – وتحدد الأوصاف وتطرق عليها – التي تصنع أنسان تابع غريب مطية وبردعة للأجانب، لا تعرف مالذي أصابه ومالذي حوله إلى هذا الوحش الذي يأكل لحم ذراعه – كما يقال – ويضرم النار في دياره بالطريق التي نرى.
والله من وراء القصد