إضاءة على سيرة الشّريف الماقني

إضاءة على سيرة الشّريف الماقني

  • أ :: شكري السنكي

الشّريف الماقني، المولود فِي مطلع القرن العشرين بمدينة بّنْغازي، التربوي العاشق للغة العربيّة، الإنْسَان المُثقف، المحب للفن ومُرْهَف الإحْساس. كان مِن الرعيل الأوَّل الّذِي دافع عَن الوطن وقضاياه، وساهم فِي المحافظة على اللغة العربيّة فِي فترة الاستعمار الإيطالي. وكان مِن بين أولئك الجيل الّذِي حافظ على الهوية الِلّيبيّة، ومِن المجموعة الّتي انشغلت بتدريس اللغة العربيّة للأطفال والشباب خفية حتَّى لا تكتشفهم أعين الأمن الفاشستي الّذِي يريد أن تسود اللغة الإيطالية ضمن ترسيخ استراتيجيّة الاستيطان الإيطالي، والّذِي كان يشمل النواحي الفكريّة والتربويّة والسلوكيّة، بِالإضافةِ إِلى الكيانات الإداريّة والسّياسيّة.
نجح الشّريف الماقني وأبناء جيله مِن الشباب المتحمس فِي الحفاظ على الهويّة وتقوية الانتماء الوطنيّ، كنجاح رجال المقاومة فِي تطهير التراب الِلّيبيّ مِن المستعمر الإيطالي. وكانت هُناك أدبيات كثيرة تُشير إِلى دوره الكبير فِي مجال المحافظة على التراث الفكري العربي إبّان عهد الاستعمار الإيطالي، وهذا مَا تؤكده تلك العلاقة القويّة بينه وبين شاعر الوطن الكبير أحمَد رفيق المهدوي، العلاقة الّتي ظلّت قائمة حتَّى وفاة رفيق فِي العاصمة اليونانيّة أثينا، يوم الخميس الموافق 6 يوليو 1961م. وقد اعتاد الاثنان التحرَّك مساءً مِن الكوخ، الّذِي بناه رشاد «صاحب مقهى نجمي» لأجل أن يكون مكاناً يلتقي فيه رجال الفكر والثقافة والأدب والفن، مشياً أو سيراً على الأقدام ذهاباً وإياباً، مِن منطقة البركة إِلى الشّابي وسط البلد.
وعن علاقة الشّريف الماقني برفيق، قال ابن أخ الأوَّل، أحمَد خليفة الماقني: «كانت علاقة عمّي بأحمَد رفيق علاقة أخوية متينة، بكلِّ مَا تحمل الكلمة مِن معانٍ، وكانت تجمعهما قواسم مشتركة عديدة: الهم الوطني والثقافة والشعر والفن. هذا، وكان أحمَد رفيق هُو مَنْ اختار اسمّي ساعة ولادتي، وقد عرفت باسم (أحمد رفيق) الّذِي ظل معي سنينَ طويلة، إِلى أن استبدله صديقي سُليْمان مُصْطفى منينة فِي خمسينات القرن المنصرم، بلقب (الحاج) الّذِي أصبحت أُعرف به منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا».
بعد استقلال ليبَيا فِي العَام 1951م خطا الشّريف الماقني نفس المنهج الّذِي كانت تعتمد عليه رسالته الوطنيّة فِي المحافظة على اللغة العربية، فعين أستاذاً للغة العربيّة فِي «مدرسة الأمير» فِي بّنْغازي. وقد كانت «مدرسة الأمير» قلعة تربويّة لأجيال متعددة فِي مجالات الفكر والفن والرياضة. وترقى فِي السلم الوظيفي مِن أستاذ إِلى أن صار ناطراً لمدارس متعددة فِي ولايّة برقة شملت بّنْغازي والمرج وشحات ودرنة، ثمّ عُيّن مفتشاً للمدارس فِي منطقة كبيرة امتدت إلى قرى ومدن صغيرة.
يضيف أحمد الماقني عَن عمّه، فيقول: «كان الشّريف الماقني شخصيّة متميزة، صاحب روح مرحة، عميق الثقافة، سريع البداهة، مرجعية أصيلة للتراث الأدبي العربي والعالمي. كان متواضعاً إِلى أقصى حدٍ، ولا يتباهى بفهمه وثقافته أبداً، وكان يقرب إليه الشباب الّذِى يتوخى عندهم المواهب الثقافيّة وخاصّة الشعرية لينمي عندهم تلك الملكات. امتدت علاقاته بكافة مثقفي وشعراء ولايّة برقة، ومدينة درنة الزاهرة عروس مدن الشرق، حيث كانت له رسائل وسجالات أدبية مع شاعر درنة الكبير الأسطى عُمر ومبدع شعرائها الشعبيين عبد الكريم جبريل الّذِي أصر الشريف يوم وفاته أن ينعيه أمام قبره».
لم يتقلد الشّريف الماقني منصباً سياسياً أو يرتبط إدارياً بأيِّ وظيفة سياسيّة، ولكن مربوعته الصغيرة «صالون بيته» كانت ملتقى ومنتدى لمعظم رجالات دولة الاستقلال مِن وزراء وسياسيين وكبّار رجال الدولة مِن أمثال: عبدالرازق شقلوف وعبدالكريم لياس وحسين فضيل الغنّاي، وإِلى جانبهم رجالات الفن والفكر كالفنّان السّيِّد بومدين والفنّان على الشعاليّة والفنّان مُصْطفى المستيري.
وعُرف عنه أيْضاُ أنه كان محباً للطرب الأصيل ويتمتع بصوت شجي وجميل جدَّاً، وبريادته في فن «أغاني العلم»، مع روعة شاعريته فِي نظم الأغاني الشعبيّة. ومِن أهم أشعاره قصيدة: «البارح منامي جاب حلو لباسه» والّتى أضاف عليها وغنّاها الفنّان السّيِّد بومدين، كذلك الأغنية المشهورة فِي الفن الشّعبى: «صافن حظر ما يوم هاون داهن».
لم يترك الشّريف الماقني مِن أدبياته إلاّ ما كان ينشر له فِي «مجلّة ليبَيا» الّتي يرأسها الشّيخ مُصْطفى بِن عامر، فكانت تنشر له: قصّة قصيرة فِي كلِّ عدد مِن أعدادها القليلة، قبل صدور قرار إيقافها. ويُذكر أن المخرج فتحي بوهادي بالإذاعة الِلّيبيّة، كان قد أخرج له فِي العَام 1964م تمثيلية إذاعيّة عَن قصته المعنونة باسم «لقاء».
كتب الشّريف الماقني فِي 17 يونيو 1957م رسالة إِلى أقرب أصدقائه يُوسف الدلنسي (1930م – 23 أبريل 1969م) الأديب وأحد أبرز أسماء جيل المؤسسين للحركة الأدبية المعاصرة فِي ليبَيا، جاء فِي جزءِ مهم منها ما يلي: «إن قوَّة الأديب ليست فيما يحسنه مِن علم البلاغة وحفظ الأشعار والنصوص، وإنّما هي مستمدة مِن قوَّة شخصيته وروحه، فإذا كانت روحه عظيمة سامية جاء أدبه سامياً ومؤثراً.. وقوَّة الإيمان بالمبدأ أو الفكرة الّتي يعتنقها الإنْسَان تترك فنّه وبيانه يخرج للنَّاس».
أخيراً، توفي الشّريف الماقني على إثر حادث أليم، ويقال أن سيارة مسرعة صدمته على حافة الطريق فِي الجبل الأخضر، وانتقل بعد ذلك مباشرة إِلى رحمة الله. وكان موكب جنازته يوم 11 مارس 1962م، شبه رسمي نظراً لمشاركة عدد كبير مِن الوزراء ورجال الدولة فِي شتى المجالات، ووسط حضور كبير لزملاء الفقيد مِن الشعراء والمثقفين ورجال التربيّة والتعليم، وإِلى جانب الأقارب والأصدقاء وأعيان مدينة بّنْغازي ووجهائها. ووُسد ثرى بنغازي بـ«مقبرة سيدي عبيد».
هذا، وقد نظم نادي الهلال الثقافي الرياضي يوماً في أربعينيته حضره عدد كبير من أهالي بّنْغازي ووجهائها، وأشرف على ذلك اليوم أقرب أصدقائه وأحبابه المُبدع الأديب يُوسف الدلنسي.
رحم الله الشّريف الماقني وجزاه خيراً بما قدّم وسيظل حاضراً فِي ذاكرة الأجيال بمواقفه وإبداعه وإخلاصه.
رحمــه الله وغفر له وجعل الجنّة مستقره ومثواه.


* المعلومات الواردة فِي هذه المقالة أخذتُها عَن الأستاذ أحمَد خليفة الماقني ابن أخ الفقيد.
الصــور:
* الصورة الأولى: الشّريف الماقني فِي مكتبه، مِن الشبكة العنكبوتيّة العالميّة «شبكة النت الدّوليّة».


* الصورة الثانية: صورة تضم ومِن اليمين: الشّريف الماقني والفنّان مُصْطفى المستيري، والصورة مِن أرشيف سُليْمان منينة، وقد سبق وأن نشرها فِي صفحته الشّخصيّة بالفيسبوك.
* الصورة الثالثة: صورة ليوسف الدلنسي هُو يلقي فِي كلمة في أربعينية المرحوم الشّريف الماقني، بنادي الهلال. «صورة مِن أرشيفي الخاص».


* الصورة الرَّابعة: صورة لأحمد خليفة الماقني هُو يلقي فِي كلمة في أربعينية المرحوم الشّريف الماقني، بنادي الهلال. «صورة مِن أرشيفي الخاص».


* الصورة الخامسة: تضم مِن اليمين وقوفاً: مصطفى منينه، الشّريف الماقنى، مصطفى المستيرى، ويظهر شاعر الوطن أحمَد رفيق المهدوي جالساً على الكرسي. «صورة مِن أرشيف سليمان مُصْطفى منينة».

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :