- احمد الكواملة
لعل من المناسب في بداية هذه المقاربة , تبيان مصطلح ودلالة “سردية” أو سرد .
السرد أو السردية : مرادف لكلمة رواية حكي أو قصة أو قصص .
و السردية أو القصة تكتمل براو “كاتب القصة أو السارد” و قارئ أو مستمع , و ازمان و أماكن و أحداث و شخوص .
و السردية أو القصة تستدعي توافر عناصر تكنيكية في الكاتب “الراوي” و المستمع , مع تفاوت بقدر ما بينهما .
والسردية أو القصة قد تكون قريبة التناول , لغة و دلالات , يمكن ان نطلق عليها مسمى “السردية أو القصة البيضاء“
وهي التي تدرج ضمن النصوص المباشرة , الخالية من دلالات ما بين السطور , وكاتبها أو راويها , تكفيه تقنيات و أدوات إبداعية بسيطة قريبة الدلالة , و القارئ أو المستمع لا يحتاج كثير تأمل ليدرك و يتفاعل و يتأثر .
يقابلها “السردية أو القصة ثرية الألوان” إن جاز التعبير , و هي السردية أو القصة التي تحمل دلالات و إحالات و أعماق و غموض و إبهام و ظاهر و باطن و صور مركبة و إدهاش و لعب بالزماكن و تشييء الإنسان و انسنة الأشياء و ما في السطور و ما بينها , مثل هذه السرديات او القصص , تستدعي ملككات و تقنيات و أدوات خاصة , للراوي أو القاص , و الى حد ما للمتلقي , بغض النظر عن جنسها الأدبي “سردية قصصية أو سردية شعرية” .
و لعل أول ظهور لمصطلح “علم السرد” كان عند صدور كتاب “نحو حكايات الليالي العشر” لتزفيتان تودوروف , عام 1969م , حين قال : “يختص هذا العمل بعلم لم يوجد بعد , فلنطلق عليه علم السرد” و أظن أن ما يعنيه بعلم السرد , هو العلم المتعلق بتقعيد عناصر السرد و مكانة كل عنصر , ما هو الأساسي , و ما هو الهامشي , و ليس السرد ذاته , لان فن السرد قديم و قديم جدا .
و قد تعمق المجرى عبر أكثر من ناقد و كاتب مثل “رولان بارت , و جيرار جينت” و غيرهم .
و قد صدرت عن “مؤسسة محمد بن راشد الثقافية” في دبي موسوعة السرد العربي للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم , في تسعة مجلدات ضخام , و ذلك في عام 2015م , مع العمل على تقعيد أسس السرد كما يراه الناقد .
و الشعر السردي “القصصي” قديم يتمثل في الملاحم الشعرية , مثل “الإلياذة و الاودسة , و جلجامش” و يعد القرآن الكريم مصدر مهم للسرد العربي “نحن نقص عليك أحسن القصص” و كذلك المقامات “االحريري و الشاهنامه” و ادب الرحلات و السير الذاتية , و غيرها من و السير مثل ” سيرة عنترة ابن شداد السيرة الهلالية“.
غير ان مثل هذه السرديات الشعرية في اغلبها لا تحتفي ببعض خصائص الشعر كما تظهر في سرديات جميل أبو صبيح الشعرية , من حيث التقنيات و اللغة و الصور المركبة و الحركة الزماكانية و الإيهام و الإدهاش و الإيقاع اللوني و مفارقات الضوء و العتمة و تأثيرات مقاطع الدراما السينمائية التصويرية و غير ذلك من عناصر تثري الحكاية , و ترفعها من قصص عادي الى سرد شعري رفيع .
و رغم ان سردية لست ابكي قريبة الدلالة ,تترك أثرها في روح المتلقى و القاريء دون كثير عناء , إلا أنها تمتاز بكثير من خصاص السرد الشعري العالي .
و المتابع الواعي لشعر الشاعر جميل أبو صبيح من بداياته و الى مجموعته الشعرية “سرديات الضوء” و غيرها من مجموعات , يدرك بوضوح إن السردية الشعرية حاضرة في أكثر مجموعاته من مجموعة الخيل مرورا بالبحر و الى مجموعته سرديات الضوء و غيرها , فسردياته الجديدة ما هي الا تعميق و إبراز و تراكم لتجاربه القديمة , و لعل الشاعر جميل أبو صبيح من أوائل الشعراء الذين قدموا السردية الشعرية , و أن لم يعلن ذلك إلا حديثا .
إن الشاعر جميل أبو صبيح يصوغ كتاباته و شعره بشكل عام , و سردياته الشعرية بشكل خاص , انبثاقا من ملكة شعرية تصورية إيقاعية لونية ضوئية درامية سنمائية لغوية مجازية في غاية الثراء و التلون و الجموح و التأثير و الإدهاش .
إن سرديات جميل أبو صبيح حالة من الاندغام في الواقع و الخيال و ما وراء الصورة و الصوت و الروائح و الملامس و العتمة و الضوء و الهدوء و الضجيج و جدلية الحياة و الموت و البعث و الخلود , و الالم و المتعة , و الحب و التجاهل , و اليأس و الأمل .
حين نصغي الى سرديات جميل أبو صبيح , نطير بحواسنا نحو ممالك لا يمكن أن نلم أعماقها و دلالاتها في صورة أو لفظ , غير أنا نحس أنها شيء من دواخلنا تفضي بنا الى حالة صوفية تموج بالتسابيح و الحلول .
و سرديات جميل أبو صبيح تكاد تكون قصص مكتملة العناصر , لتوافر الأمكنة و الإحداث و الأزمنة و الشخوص و جدلية التوافق و التنافر و التمايز و التأثير بينهم جميعا .
و الشاعر يمتلك الأدوات الكافية لمنح سردياته معناها و مبناها الذي يتيح لشاعرها ان يعلن انه يقدم بسردياته هذه تجربة جديدة يضيفها الى تجاربه الشعرية السابقة .
حيث بداية السرد :
لست ابكي
لكنه دمعي يسيل
و عبر جدلية زمانية , يتحرك بالحدث من الزمن الحاضر الى الماضي “فدمعه يسيل على حدث ماضي ، متصل بالحاضر , حين يقول :
جرافة كبيرة جاءت
جرافة و جنود مشاة
و هكذا يحرك بوعي بنية الزمن , من الحاضر الى الماضي , في حركة عمودية هبوطا و صعودا , من الحاضر الى الماضي الى الحاضر حين يقول :
و أنامل أجدادي
تقفز الى تربة مجاورة
……
الى استشراف المستقبل حيث يقول :
سأفرد علما كبيرا على الركام
وعلى لسان الطفل و هو يلتف بعلمه , مخاطبا الجندي القاتل يقول :
لك اليوم
و لي الغد
محركا بذلك الأزمنة و الإحداث و الشخوص و الأمكنة .
ما سبق من مقاربة ما هو إلا تمهيد لإطلالتي على سردية جميل أبو صبيح الموسومة
ب “لست ابكي” كنموذج دال على أكثر سردياته .
عنوان السردية “لست ابكي“
كأنه يتساوق مع العرف العام الذي يعتبر بكاء الرجل حالة من الضعف لا تليق بالرجولة , بما يذكرنا بقول الشاعر العربي مظفر النواب :
لست أبكي
فإنك تأبى بكاء الرجالِ
ولكنها ذرفتني أمام الضريح عيوني
وكأني بجميل يحاول أن ينفي عن نفسه هذه التهمة , بنفيه لبكائه بعبارة “وقع الحافر على الحافر” حين يقول :
لست ابكي
لكنه دمعي يسيل
أضع راحتى على جبهتي
اخفي وجهي
اعتراف سري بأنه يبكي رغم ان رجل , حين يخفي وجهه
و قد كرر هذا المقطع بنفس الصيغة و بصيغ قريبة أكثر من مرة .
نعم هو لا يبكي لكن دمعه يسيل , هو يخفي بشدة ما يعتمل في دواخله من براكين الحزن و القهر و المرارة و الإحساس بالعجز , و هذا اشد آلما و حرقا من بكاء حقيقي .
انه لا يخفي وجهه عن الناس إنما يخفيه أيضا جدران البيت و حجارته و الإعشاب النابتة عليه عن أنامل أجداده وعرقهم عن الفرح و التعب , عن طائر الحمري و لعب الأطفال تحت الحطام , و عن وعن و عن , في حالة من انسنة الأشياء و هو يقول :
اخفي وجهي
أخفيه عن جدران البيت
عن الأعشاب النابتة عليها
عن أنامل أجدادي تصف الحجارة
عن طائر الحمري يقف على حطام البيت
عن الأثاث و لعب الأطفال تحت الحطام
كلماته تشي بفلسطينية و بعمق مأساته , دون ان يعلن ذلك مرة واحدة , هو ينهض بجرحه و وجعه و إبداعه ليتجاوز ضيق المكان الى فضاء الإنسانية, هكذا هو الإبداع الخالد , الذي يجعل السوداني يحس ان هذه السردية تصف معاناته , وكذا كل معذب فوق كل ارض و تحت كل سماء .
هو “الشاعر”لا يتحدث عن مكان و إن تحدث عن نفسه أكثر من مرة “وحدي” حيث لا سند , وعن زوجته و ابنته و طفله , بصيغة غير المعرف , و كأنهم في المكان و في اللامكان , حين يقول :
جرافة كبيرة جاءت
أسلحة و ناقلات جنود
و أنا وحدي
عيني واسعة بحجم الجرافة
و دمعة نافرة
طفلي تحت الردم
و زوجتي
جديلة معفرة بالتراب
بقية منديل
يرفرف على حجر
و أنا وحدي
هذه القصيدة كتبت قبل حرب غزة بسنوات , غير إنها مثال مختصر لما يجري من أهوال لشعبنا , و إن لم يذكر غزة أو فلسطين .
هو رغم هذا الدمار , حيث رائحة الموت في التراب و الهواء و الماء , و حيث يطلق “وحدي” مدوية , إلا انه يفتح كوة للأمل و التغير و النهوض , كطائر العنقاء من الموت الى الحياة , التي تليق بإنسانية الإنسان , في كل مكان و زمان , حين يقول :
و أنامل أجدادي
تقفز الى تربة مجاورة
طائر الكناري يرقب على شجرة قريبة
باقة ورد على طرف حديقة البيت
لم تزل متفتحة
مبشرات تحيلنا الى الثقة في فجر جديد و عزيمة لا تخور حين يرفع يد النصر و المقاومة , و علم التحدي و الأمل و البقاء …
حمامة ترفرف على جبهتي
على كتفي سرب من الأطفال
يطلقون طائراتهم الورقية في الريح
و أنا أقف على عتبة البيت
اسحب قيثارة الريح
و اعزف للركام
طفل يترجل عن كتفي
يصرخ جندي مدجج بالسلاح
قف
………
يحدق الطفل بوجه الجندي
يلتف بعلمه
يرفرف في الريح
يصرخ :
لك اليوم
و لي الغد
حين نستمع أو نقرأ سردية “لست ابكي” نستحضر فلما سنمائيا يفيض بالفنتازيا و الحالات الإنسانية الثرة الغنية بالحس و الألم و التوق للحياة , حيث تماهي و اندغام الإنساني بسائر الأشياء و الكائنات ، في صور شعرية مثيرة جاذبة مدهشة , و من ذلك :
الرصاص ينبح في الهواء
……
و أنامل أجدادي
تقفز الى تربة مجاورة
…….
و الشمس شهيدة تحت الجدار
ضوؤها مريض
……..
الريح خفيفة
تحمل قيثارتها و تعزف
…….
و أنا أقف على عتبة البيت
اسحب قيثارة الريح
و اعزف للركام
هذا نموذج يعبر عن بعض أفاق سرديات جميل أبو صبيح , حالة من الارتقاء في تجربته الشعرية ,
باب يفتح لشعرية جديدة تتيح لشعر النثر الخروج من نمطيته التي كادت تخرجه من سياق الشعرية .
هي تجربة جديرة بالاهتمام , ينثرها جميل أبو صبيح بين يدي الشعراء و النقاد , علهم يجدون من خلالها ضوءا آخر النفق .