عبد الرحمن جماعة
المفهوم الأوسع
إن كلمة إعادة تدوير قد يتبادر منها إلى الذهن (قمامة) أو (مخلفات)، والحقيقة أن هذا المعنى المتبادر صحيح إذا فهمناه بالمعنى الأشمل لكلمة قمامة أو مخلفات، لكنه غير صحيح إذا فهمناه بالمعنى الأضيق أو بالمعنى العيني الحسي لكلمة قمامة، فالقمامة ليست فقط تلك العلبة الفارغة التي أدت مهمتها وحملت إليك واستهلكتَ ما في جوفها، بل القمامة هي كل ما لم تعد بحاجة إليه، وكل ما ينبغي التخلص منه، وكل ما لم يعد صالحاً للاستهلاك!
فعلى سبيل المثال؛ الأفكار القديمة تصبح قمامة بعد أن قام صاحبها بتحديث فكره وعقله، والمشاعر التي تلازم صاحبها ولا تفارقه هي قمامة بالفعل!
وللإنسان إزاء هذه القمامة نوعان من ردود الأفعال:
الأول: هي الصراع معها ومقاومتها وعنادها، وهي وسيلة غير مجدية لأن مقاومة الشيء تبقيه، وهذه حال أغلب الناس.
الثاني: هي إعادة تدويرها، وهو سلوك القلة القليلة من الناس.
وبالعودة إلى محور هذه المقالة وهو كون إعادة التدوير مفهوم أوسع وأشمل يتجاوز الأشياء العينية المحسوسة إلى ما هو أبعد من ذلك لدى النخبة، وأن إعادة التدوير تشمل جميع مجالات الحياة، فنجد أن هذا المعنى يتجلى بوضوح في النصوص الدينية!
فالتوبة – مثلاً – هي إعادة تدوير، لأن التائب يعيد تدوير ذنوبه ليحولها إلى حسنات ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان:70].
ولا أظن أن ثمة ما هو أدل من ذلك على مفهوم إعادة التدوير بمعناه الأشمل!.
وبعض الناس يستثمرون وسوسة الشيطان ونزغه لتصبح كمنبه يذكرهم بالله، قال عز وجل: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:201]. قال مجاهد: “هو الرجل هم بالذنب فيذكر الله فيدعه”. وقال عز وجل: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ).
وأمام هؤلاء الناس يقف الشيطان حائراً فلا يدري هل يُوسوس لهم فيجعلهم يذكرون الله أم يتقاعص عن مهمته التي نذر نفسه لأجلها؟!
وهؤلاء هم أشد الناس على الشيطان، بل إن بعض الصالحين يرون أن الغفلة هي أهم منبه!.
ويرى بعض السالكين أن هذه الطريقة هي من أنجح الطرق للقضاء على وسواوس الشيطان سواء في الصلاة أو في غيرها، فما توسوس به نفسك أو يوسوس به الشيطان إليك توجه به إلى الله، فإذا ذكر لك الشيطان مشكلة أطلب حلها من الله، وإن ذكَّرك بموعد أو عمل تريد إنجازه أطلب من الله أن يُعينك عليه فتكون بذلك قد أعدت تدوير الوسوسة لصالحك!.
وفي قصة سيدنا يوسف نرى أن معنى إعادة التدوير تتجلى في أوضح صورها وأجلِّ معانيها، فهل فكرت يوماً لماذا يبقى نبي الله يعقوب عليه السلام أسيراً لأحزانه إلى درجة أن تبيض عيناه من الحزن بينما يتجاوز الكثير من الناس مثل هذه الأزمات في ظرف وجيز، وهل هذا يتناسب مع مقام النبوة؟!
هذه الأسئلة أجاب عليها يعقوب بنفسه، قال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون) [يوسف:86].
فيعقوب عليه السلام قد استثمر هذه الأحزان ليتقرب بها إلى الله بثاً وشكوى وتضرعاً وبكاءً وتذللاً بين يديه سبحانه، وهو أعلم بالله وبمراد الله وبما يرضي الله!.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره”. رواه البخاري.
فكلمة “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” تقولها العرب قبل الإسلام وهو منهجهم في إدارة الصراع فيما بينهم، لكن رسولنا الكريم ﷺ أخذ هذه الكلمة وأعاد تدويرها لتصبح منهجاً للإصلاح والعدل ومنع الظلم بكل أشكاله!.
وختاماً.. فإن ما ذكرته هو مجرد عينة على أن الحل الأمثل ليس دائماً التخلي والترك والنبذ بل غالباً ما يُمكن الاستفادة مما يُعد خسارة والانتفاع مما هو مُضر، فكما استفاد الإنسان من السيول والفيضانات ليحولها إلى مصدر طاقة دائم ومعين لا ينضب بل إن الدول تُعيد تدوير أزماتها وكوارثها لصالحها، فكذلك يُمكن للإنسان أن يُعيد تدوير مشاعره وأزماته لصالحه!
……. والله المستعان