بقلم :: نجوى التوهامي
حينما دخلتْ مبللة لم تهتمْ بالرجل الذي اصطدم بها وكادت سيجارته أن تحرق شالها الوردي عند باب المقهى الموجود في قلب الغابة.
لم تهتم لعطره الباذخ، ولا لعينيه الخضراوين، ولا لشعره المسحوب للخلف،
لم تهتم لمعطفه الأسود الطويل، ولا لحذائه الأنيق، ولا حتى لساعته الرولكس الجميلة. سحبت شالها من على كتفها، ونفضت حبات المطر، وفي ركن يُشرف على قصص الناس العابرة وبعيداً عن التكييف البارد أخذت قهوتها وجلست تكمل رسالة لصديقتها البعيدة في وطنها الموجوع….
كل شيء في هذه البلاد ياصديقتي يبدو جميلا…المطر هو البطل الحقيقي الذي يربت على كتفي كل يوم…يعينني على تحمّل كآبة غربتي وبعادك، به أجدد ريش حنيني كما تفعل الطيور عقب مواسم الربيع حتى لا أصاب بالتبلد.
الليالي هنا تنام باكرا، ولكن عيونها تبقى مترعة بالأضواء المسحورة ككنوز علي بابا بامتداد أفق الغابات، أتيت إلى هذه البلدة البارحة بعدما قرأت عنها في الاعلانات، يسمونها (مدينة السحاب) مدينة باردة…..
بها نوافذ تطل على السماء، وكأنها طفلة ساحرة انجبتها أمها بين أحضان الغابة وماتت.
من هذه القمم العالية أستطيع أن أستنشق عطر المطر… أتنفس هواء السحب بسهولة… وألمس بيدي وجه القمر، ويبدو من بعيد البرجان كعروسين، يهيمنان على فضاء كوالالمبور في إجلال مسرف…كأنهما جبلين خرافيين انقطعا من سلسلة أكاكوس المكابرة، واستقرّ بهما الزمن في هذه الأرض الأستوائية… كعروسين امتدت ذراعاهما تعانقان الأسارير، يرميان بالتحية الآسرة من أعالي المنصة،
أراهما يتناجيان في رحاب، وينصتان لقصص الرياح بخشوع
أنا هنا ياصديقتي مبتورة بدونك، أتأمل بلا عينين، وأضحك بلا شفتين، وأركض تحت المطر كأعرج فقد عكازه.
يفزعني هذا الزمن الهارب بعمري، وأنا بين يديه كفاكهة استوائية أنضجتها الشمس قبل آوانها..
لو أنتِ معي ماغيرتْ هذه البلاد الحارة ملامحي، ولا بدّلت طباعي، وما احتجتُ لتلك اليمامة التي أنتظرها تنقر على زجاج نافذتي كل يوم.
لو أنت الآن ياصديقتي هنا معي لاستمتعت بفنجان آخر من القهوة، ولخرجت أبحث عن ذاك الرجل صاحب المعطف الطويل، أسأله كم الساعة الآن، وما نوع عطره،
ولماذا أحرق شالي بسيجارته وغادر.