البيترا سودا …

البيترا سودا …

بقلم :: سالم الهمالي

المسافة لا تتجاوز الثلاثين كيلومتر،لا يستغرق زمن قطعها العشرين دقيقة، تزيد او تنقص شيئا قليلا، كنا اطفال صغار، ننتظر الرحلة بشغف وشوق الى زيارة اخوالنا، يستقبلوننا بحفاوة تزداد حرارتها مع كل زيارة. خالي علي ( رحمه الله)، الشيخ والتاجر، يسلم علينا ويتوجه مباشرة الى ثلاجته، يفتح بابها ويُخرج منها ( البيترا سودا)، يفتحها ومعها يقدم لنا اجود انواع البسكويت في متجره. نلعب ونلهو بجانبه، وهو يتجاذب أطراف الحديث مع ضيوفه وزبائنه. سنين ونحن نزورهم كل بضعة اشهر، ولا اذكر مرة ان غابت ( البيترا سودا) عن استقبالنا، فحتى ان نفذت من ثلاجة متجره، كان يوصي لنا ببعض ما يختزنه في البيت، فيأتون بها على عجل.
لا ادري هل حبي لهم كان لِ ( البيترا سودا) والبسكويت، او ما كانت تحكيه لنا أمي عن أخوالها وكيف كانوا يعاملوننا ويفرحون بنا. هَمْ ثلاثة ( علي، عمر، محمد)، كانوا لها الأب الراعي والحنون بعد ان فقدت والدها، الذي وفاه الأجل بمرض لم يمهله طويلا، توافق ذلك مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وجدت نفسها يتيمة، او ( قزونه) كما يسمون اليتيم في قريتنا. كَبرت وهي طفلة صغيرة لترعى اخيها الذي ولد بعد وفاه الأب، ليشاركها اليتم، وألمه الذي يعتمر في الصدور ولا تبوح به الالسن. قبل اكثر من سبعين عاما كانت الحياة شاقة وبسيطة، فتأكل مما تزرع، وينبت في صحراء قاحلة كل قطرة ماء تحصل عليها بجهد مضني، لا يمكن التفريط فيها بسهولة، لتسقي جداول القمح والشعير والطماطم والفلفل والبصل والحلبة والبرسيم الذي تتغذى عليه الدواب التي تحرث الارض وتنقل الناس وتخرج الماء من الآبار الجوفية، وكذلك الأغنام والماعز المصدر الوحيد للألبان والسمن واللحم والجلود والصوف.
جدتي ( رحمها الله) كانت تقول: ” انا عملت كل ما يعمله الرجال، ما عدا حمل البندقه”. تترك الطفل الرضيع في حضن اخته المفطومة، وتخرج مع اذان الفجر تسعى في طلب رزقهم بين سوانيهم وحطايهم، تحلب الشاه والعنز، وتؤبر النخل، وتروي الجداول، وتحصد القضب، وتسقي الغنم والماعز، وترجع لبيتها للرحى، ثم التنور، وبعدها القدر وما يجود به اليوم من حساء او دشيشه، وتختم يومها بالصوف بين المغزل والقرداش والمسدة … وفرت لأبناءها كل شيء ممكن في ذلك الزمان، وحافظت على رزقهم، لكن لم يكن باستطاعتها ان تعيد لهم الأب، او تنزع من صدورهم الشعور باليتم.
ما شعرت يوما ان أمي تربت يتيمة، والآن اعرف ان ذلك لم يكن ممكنا الا بمشيئة الله، وما قام به أخوالي وجدتي في رعايتها وأخيها. لا تذكر من ابيها الا نظرة واحدة طبعت ورسخت في ذاكرتها على صغر سنها وهي بنت عامين، حين أشار الى ابن خاله ( الراوي) ان يأتي بها اليه وهو على فراش الموت، وضعها على صدره، وحدّق فيها طويلا وهو الشيخ الحافظ لكتاب الله يتلو عليها الكثير من ايات القران، ومنها سورة الكهف، وكأنه يستودعها رب العالمين.
مرارة اليتم بطعم العلقم، كما قالت لي أمي بعد ان كبرت، وهي تصف حالها وهي ترى ما فعله رجل كبير افتك تمرة من اخيها ليعطيها لابنه، او حين يطول انتظارها لقدوم الأب الذي لا يأتي عندما يعود اباء الآخرين من الساحل، وتقول بحسرة: كنت ابكي لوحدي وأقول … يا ريت سيدي يجي معاهم ؟!…
اليوم، وكما كنا في الماضي، افرح بزيارة اخوالي، وارى فيهم معاني الخؤولة الوفية الطيبة، وافهم جيدا ما يعني المثل الشعبي القائل: ” الثلثين للخال والخال والد”، و ” اختار لِ ولدك خال”. ولا اعرف هل ان حبي لِ ( البيترا سودا) هو ناتج عن طعمها ومذاقها، او ان طعمهم ومذاقهم هو ما اتذوقه عند شرابها، وذلك ما يجعلها على كل حال .. ألذ ما اشرب …

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :