- حسن المغربي / مدير تحرير مجلة رؤى
سأنسحب! لا جدوى من المواجهة، لقد جبلتُ على الخوف والارتياب وعدم الثقة بالأشياء، أن أكون شجاعا وجريئا، ولا أقدّر العواقب، ربما يعني خسارة ذلك الشعور الذي يُخجل ويَخجل منه الجميع، وطالما كنتُ مقتنعا رغم أني قليل الاقتناع إن قيمة البشر لا تكمن في قوة أفعالهم التدميرية، وإنما في قوة شعورهم بالخجل، هناك من يكذب أمام الملا ويسطوتحت ضوء النهار، ويغتال الناس دون أن تظهر على قشرة وجهه علامات الوجس ولكأنه أراد أن يعبر عن حقيقة تجرد الإنسان من قابلية العيش في سلام، لا أستطيع تفهمحتى هذه الساعة كيف أسمح لنفسي (تحت أي سند) سياسي أو ديني أو غيره أن أدعو لتحقيق مصلحة ما من خلال تأكيد قيمةنهائية مطلقة، لا أعرف أن أقول (هذه هي الحقيقة) فلا توجد في جمجمتي حقيقة واحدة، بل حقائق، ولا استسيغ اختزال الفعل فيالكلمة الواحدة ولو كانت نبيلة، وطاهرة، وأكثر تعبيرا..!
ما زلتُ اعترض كثيرا على تفسير القيم وتحليلها ووضع معايير ثابتة لها، وفي المقابل، هناك من يقول لي بفظاظة: أنت!ماذا تفعل؟لاتضلل الناس، كفاهم سفسطة. ومن ثم ابتسم! استدعي طائفة من الخيالات، أقول: ماذا صنع ذلك الأصلع وتلاميذه بالعقل الإنساني، لقد كانوا مخادعين، دجالين، وأول من قاموا بتشويه الحقائق وتزييفها، لا وجود لمعايير، وقوالب، وأنساق، لا وجود لثبات غير قابل للحركة، الإنسان مخلوق زئبقي، يختلف عن جميع الكائنات، هو روح الله، ذلك الصانع الكبير، هناك من يُشبّه الإنسان بالضفدع والقملة والوحوش الضارية، وهناك من يهاجم السماء وينتّقدها، ويحمّلها مسؤولية الأفعال الشريرة، وهنالك أيضا من أعلن موت الإله، كل ذلك من أجل تبرير الفشل والانتكاسات المتعاقبة، أعرفُ بطبعي أني مسؤول على ما أقوله، وكل ما أفعله، وقناعتي الخاصة ربما تبدو لدى البعض مجرد أوهام، أليس يحدث أن الهواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش منه الآخر، فما عسى أن يكون في هذا الوقت الهواء ذاته! وبلغةأخرى: لا يوجد شيء هو واحد في ذاته، لأنه سيكون بالنسبة إلي على حسب ما يبدو لي، وبالنسبة إليك على حسب ما يبدو لك. يذكر أحدهم: “لقد كان عقل الإنسان في المرحلة الأولى من تاريخه أكثر حداثة مما هو عليه الآن” هكذا بدا له الأمر أثناء دراسة التاريخ، هذه رؤية، اجتهاد،وإذا ما كان لدي ريبة في شيء لا أركن إلى تلك القالة التي تزعم إن الذمامة والقبح هما الوجه الحقيقي للحياة، وحتى لو شعرتُ يوما بأن وجهي شاخ قبل أوانه، أنظر إلى تجاعيد جبيني بوقار، وأزهو كما لو أني وردة أعادت فيها نسمات الربيع أمل البقاء، لن أكون متهورا بما فيه الكفاية، كي يقال عني شجاع و مقدام، فليقال عني ما يقال،فأنا جبان، رعديد، وإنساني جدا كما وصفني ذات يوم أحد الأصدقاء، وكنتُ في حينها لا أعرف بماذا أجيبه، وعندما اكتشفَ خجلي قال لي لا تُعر انتباها لما قلته، وما زلتُ حتى هذه اللحظة أفضل أن أكون ذلك الأبله الذي كنته، فأنا كثير التفكير، كثير الشك والتوجس، لا أؤمن بالمسلمات، والبديهيات، والمنطق، ولم يدر في خلدي يوما أني أعرف الصواب، ولو في أبسط المسائل، وهذا بالضبط ما أجهله، وما أخشى أن أعرفه، ولكني، أعتقد أن لدي أسبابا تجعلني أتصرف على نحو ما فعلت، فمن أنا! كي أوافق على أن الأرض كروية الشكل، و إن الجاذبية هي السبب الأساس في السقوط من أعلى التلة! وكيف السبيل في الاقتناع بوجود كائنات روحية وأشياء أخرى من هذا القبيل، أنا ضد التفكير المفرد، الأحادية، المطلق، أنا ضد كل شيء يقدم على أنه حقيقة مطلقة!
جميل جدا أن يقتنع المرء بوجوده من خلال ما قاله ديكارت (أنا أفكر إذا أنا موجود)، لكن جميل أكثر لو اقتنع بان التفكير لا يعني بأنه موجود. وهذا هو الهاجس الذي طالما أرقني، كنتُ فيما مضى كلما أصادف كلبا ميتا مقلوبا بمحاذاة الطريق، أخاطب نفسي قائلا: لن أكون أكثر من هذا الكلب، أعرف أنه يوجد في الفضاء عالم أرحب من عالمنا، عالم أكثر جمالا وذكاءً، عالم كثير التناقض، لكني لا أرغب في معرفة حقيقة عالمنا الافتراضي، عالم البؤس، عالم القذارة والضجر، إن أقصى درجات الاقتناعيمكن أن تجد طريقا لعقلي هو إيماني بعدم وجودي، فما أنا سوى لحن ناي أبدي، تُردده الفراشات وأزهار التوت البرية، أواه، لا بد أن يكون لدى الناس حيوات أخرى من أجل تتبع الحقائق بألوانها المتعددة، وطرقها المتباعدة، أليس غريبا أن يدعي الحقيقة العلماء ورجال الدين والدجالين وكل من يتكلم باسم عالمي الغيب والشهادة، مع أن ما وصلوا إليه كان من قناة واحدة،وعبر مسار معرفي واحد، ومن العجيب أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث يوما عن قنوات أخرى لم تفتح بعدُ!فماذا أفعلإذا؟ أأنزع الخجلوأُقبل على قناتهم تلك، وأتصور الحياة كما يتصورها الصلع! أم أتوسل إلى القنوات المغلقة عسى أن أجد فيها ما يروي ظمأي الأبدي، بالنسبة لي، أفضل في هذه الحال، أن أكون جبانا على أن أكون شجاعا..