قصة قصيرة / جود الفويرس
في مُنتصفِ النّهار فِقتُ مفزوعًا من النّوم بعد أن قدحت الشّمس عينيّ بنارها المتأجّجة، استيقظ عقلِي بسياطِ أشعتها النّافذة من السّتار أوّلًا، ثمّ انقبض بؤبؤي فورًا للضوء الشديد، رفعتُ ساعِدي المزرق بالكدمات؛ لحماية عيني وكم آلمنِي ذلك كثيرًا، لوهلةٍ نسيتُ من أنا، وأين أنا، وفيما كنتُ أفكر في هذين السؤالين الجوهريّين وأنا أجول بنظري على هذه الأريكة البالية أرجاء الغرفة، حذاءٌ مقلوب ورسالة على الأرض، صدرت أصوات خرخرة عالية من معدتي، تذكّرت إثرها بأنّني جائعٌ جدًا، وأن الثلاجة خالية وأنّ رأسي قد قُطّع بفأس الصّداع، وأنّه الآن ينبض بحدّةٍ مؤلمةٍ كقلبِي. “أشعر بالألم في كلّ مكان، ذراعيّ، ساقيّ وكل شيء، أشعر بآلام الدّنيا كلّها هُنا”، قالها حسن واضعًا يده على قلبه. قام وهو يجرُّ نفسه كالذّبيحةِ لمسلخ الـ “mini” مِرآة، تنهّد محدّقًا في نفسه شاعرًا بالذّل، مستحضرًا موضع الحشرة الذي كان فيه الليلة الماضية، ومغمضًا عينيه علّه ينسى شعور السّحق بالكلام والحذاء الذي سرى ولا زال يسري بعنفٍ في بدنه. في خضم هذا الكدر، وفجأة كضربةٍ سريعةٍ خلف السّاق، تذكر حسن رجلًا فارع الطول قام بسنده ليلة الأمس، رجلٌ ظهر له من الظلام فجأة، شاهقٌ كعمود الإنارة، فيه معنى الضوء وفيه أسباب وجوده الحسنة، لم يتذكّر ملامحه قط؛ لكنّه تذكّر ما همس به في أذنه جيّدًا: “عُد لنفسك يا صبي، الوقت لم يتأخّر بعد”. أمام الحانة وقف بيزا، يعدّل من هندامه الذي يأبى أن يتعدّل، تركَ بيأسٍ خصلات شعره التي بعثرها الهواء على حالها بعد أن سرّحها سُدى، ثمّ اكتفى بطيّ ياقة رقبته. طرق الباب وظلّ واقفًا تسنده شجاعة تحمّل أخطاءه لبرهةٍ من الوقت، “إنّهم ينتظرونِي، لماذا إلى الآن لم يفتح أحدٌ منهم الباب لي؟”، قالها بيزا مُحدّثًا نفسه. بعد عشرةِ دقائق يصفعه فيها البردُ والحرج، مُدّ إليه بورقةٍ من أسفل الباب، كُتب فيها بإصبعٍ غليظ تنضح بخشونة جلده رداءة خطّه: “تمّ دفع ديونك، اذهب ولا تعد مرّةً أخرى”. ذُهل حسن، متى وكيف؟، وهو الذي كان سيسلّم نفسه للشرطة، أهذا حلم؟، لا بدّ بأنّهم يمزحون، لا،لا،لا، كيف يدفع عنه أحدهم وهو لم يخبر إنسيّا بالأمر؟، أيكون هنري أشفق على حاله؟ أيكون قسّ كاتدرائية أو شيخ جامع فاعلاً للخير عَلِمَ بمحنته فساعده؟ طرق الباب مرّات عدّة ولم يستجب له أحد، أراد الاستفسار عن الأمر؛ ولكن صاح بوجهه جورج من مكان ما بالدّاخل: “I have told you go away”. فرَّ حسن بعيدًا عن الحانة المقيتة كما يفرُّ الجنّي من الذكر الحكيم، كان قد تبدّل موضع شروق الشّمس فوق سمائه لوقتٍ طويل، ولكن ها هو الآن يحدّثه الحائط، يخبره بأنّها لم تشرق من المغرب بعد، وإنّه لا يتحدّث معه فعليًا الآن؛ لكنّه قدّر له بشكل ما أن يسمعه حين ظنّ بأنّها النهاية، وحين اصطحب أمرُه بهدوءِ الخلاء؛ عزاءً على تركه في العاصفة. حين اختفى، وحين لم يتواجد جسده الهزيل المتعب إلاّ في هذا الخضم فقط، في تلك اللحظة تحديدًا؛ خرج منه صوت قويٌّ جدًّا ذو لحنٍ حادٍّ كالنّصل، صوتٌ يصيبُ به أهدافه في ذيل ممر البولنغ. جلس بيزا مسندًا ظهره على أقرب جدار متخدّرًا من الضحك، كان يقهقه كالمجنون وأفكار رأسه تتفاور، كان يغلي بالبداية، محمومًا بالعودة إلى نفسه، انتفض كالملذوغ نحو منزله وتمنى لو يصل إلى وطنه ركضًا في هذه اللحظة، كان قد قرأ مثلًا يابانيًّا يقول: “المرء لا يأكل البرقوق من عينيه”، وصدّقه؛ لكنّه الآن تعلّم، الآن كان بيزا يقطف البرقوقَ من كدمات عينيه، ويأكله.