الأدب النسوي وملامحه السردية والفلسفية في رواية (بانسيه) للروائية عبير العطار

الأدب النسوي وملامحه السردية والفلسفية في رواية (بانسيه) للروائية عبير العطار

دراسة نقدية تحليلية بالآلية الذرائعية /الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي / الجزء الرابع والأخير

الحوار:

كل الحوارات كانت تنمّ عن دراية وتكثيف فلسفي قبل أن يكون تكثيفًا أدبيًّأ, حيث كانت تلك الحوارات تحليلًا راقيَا للشخصيات ونفسياتهم و ميولهم الإنسانية.

هناك حوارات مميزة كحوارها مع (حسن) الطفل اليتيم في دار الأيتام, حوار بسيط تناسب مع طفل ذكي, ولم يخرج عن مستوى اهتمامه وميوله. هناك حوارات فلسفية رائعة مع الطبيب النفسي, وحوارات رومانسية شفيفة جدًا بين بانسيه وسامي.

2-المدخل اللساني Linguistic Trend:

الوصف والصور Images:

الصور الأدبية راقية جدًا, تخضع لمدرسة الجمال والفن للفن في صياغتها الأدبية, وكأن الكاتبة فنانة تشكيلية أمام لوحة بيضاء تنثر ألوان ريشتها بدراية وحرفنة لتحيلها مهرجانًا للألوان الناطقة بالجمال بكل مظاهره, أو هي عازفة رهيفة أمام بيانو تعزف عليه كونشيرتو لموتزارت…

نعرض لبعض هذه الصور:

يختال الصمت حولها فلا أكثر ولا أقل من وداعة نزلت على قلبين جمعتهما الأقدار في قالب الرومانسية المتأنّق.

الأرق الذي فارق عيون الوجد نام مطمئنًّا إلى جوار تلك المحبة.

و سكنت كل الطيور عن التغريد, لم يتبق إلا الكروان المحلّق بعيدًا في الأجواء, يحاول أن يبتهل إلى الخالق في أعالي السماء ليعلن عن قدريّة هذه المحبة المطوِّقة للأرواح.

و كأنما استدرّ عطف النجوم لتضيء تلك الليلة بضياء الشوق المنبعث من كل الأكوان.

تتنزّل ملائكة العشق بمائدة الأشعار لتنسج من أبياتها سلّم استرضاء.

و مفرداتٌ وحيدة يسترعي انتباهها تلك الطاقات العالقة في جوف الأرض, تشدّ من أزر الهوى, و تتوكأ عليه لامتنانها بما قدّم على المدى حين حوّل جفاف الروح إلى حياة, وحين بدّد الخوف القابع في معتقل العقل, وحين اخضوضرت أوراق الأمل بكل  قبول.

لمَ كان قلبها يجلس في الصفوف الخلفية للحب موهمًا نفسه أنه لن يلفت الأنظار, ناسيًا أن الحبّ يتسرّب إلى المناطق المنعزلة في شموخ وإباء؟

الحبّ يشتهي الاختلاف, والبشر بطبعهم يلتفون حول الممنوع, يبحثون في وحدات قلوبهم المدمجة عن فيلم للحب يُعرض على شاشة الوحدة.

سرعان ما كانت تلملم ملاءة العقل للدخول في مرحلة السكون و بث فكرة النوم مجدّدًا.

نظراتي الواثقة حين نلتف حول مائدة حساب لأعلن انتصار حدود ثغري لابتسامة مكر وتهكّم, ومرآتي التي انحنت احترامًا لانتفاضة الكرامة في مواجهة الخداع.

البديع  و البلاغة:

استخدمت الكاتبة البديع والجمال و البيان و جميع العناصر البلاغية من طباق وجناس و تورية و تشابه و اختلاف و تشخيص, ولا  سبيل لحصرها هنا, بالنظر لكثرتها.

 -3المدخل السلوكي Behavioral Trend:

طرحت الكاتبة في الرواية العديد من التساؤلات على لسان البطلة, تساؤلات منها الجدلية الفلسفية ومنها الإشكالية, لقد رسمت الكاتبة عبير العطار خطًّا واضحًا بين الأنوثة والرجولة, ولم تقر التناصف الأنثوي بعدالة القول بل بسلوك الممارسة, والتناصف الفكري بشكل فلسفي, وجدلية تستحق الوقوف والتأمل, كأنها تقول: لا بد للمرأة من رجل, فهو قوة في كيانها رغم تجاوزه معها الخطوط الحمراء, ذلك أمر طبيعي تبلغه المرأة, دليل إثباته فشل الأنثى في تحقيق ذلك يجعلها بؤرة للأمراض النفسية والإحساس بالنقص….

وعادت من جهة أخرى, لتقر هذا التناصف المفروض بقوانين الطبيعة, لكن هذه المرة بين المرأة والأنثى, وبشكل فلسفي, فاعتبرت المرأة رمزًا و مركزًا للأنوثة, و قد تكون مرتكزًا لها في احترامها الذاتي لتلك البيئة الأنثوية بالسلوك والوعي, و في ذلك تتفوّق المرأة بالأنوثة على كل مخلوقات الله في ممالكه الأخرى, و في المملكة البشرية تتفوّق على المرأة وعلى الرجل, وتمسح التناصف الطبيعي المقرور بينهما, و أعطت الروائية عبير العطار دليلًا في ذلك, الوعي وثقافة البطلة ( بانسيه) كان نموذجًا أنثويًّا لهذا التفوّق, سحق السلوك السلبي للمرأة والرجل في ديمومة التخلّف, و تمثّل ذلك بشخصيّتين(عائشة-نبيل بمواجهة بنسيه) أقرّتا الصراع الدرامي المتمكّن فلسفيًّا على طول خط الصراع الدرامي في الرواية, وبشكل مزدوج بين الخير والشر, وأخرى بين الشر والشر, بشكل لم أرَه من قبل!! 

-اللغة الشاعرية والدور المُعد لها بالرواية: 

الواضح جدًا أن هذه الرواية  مبنية على قالب موسيقي محسوس, أقرب ما يكون إلى قالب الكونشيرتو, ويعني هذا أن الخواص الأنثوية للأسلوب النسوي بدأت تفرض نفسها بشكل قصري, حيث تتبارى البطلة بالعزف على آلتها المنفردة بمهارة, بمصاحبة باقي الشخصيات باعتبارهم أفراد فرقتها الموسيقية, تتفوق عليهم جميعًا بنغماتها ذات الحركات الثلاثية المتعاقبة, الإيقاع السريع, الحركة البطيئة المتهادية, ثم الحركة السريعة جدًا… وفي كل الحركات تناوب بين الألم المعاش برهافة الإحساس و أحيانًا المبالغة في الرومانسية, و بين الأمل في بحثها عن السعادة..

” إن تناوب الأوجاع على روحها يكمن ما بين صعود وهبوط, لتقف على بعد مشهدين مما يحدث, فهل عليها أن تسأل المسافات أن تقترب وتعترف لها بالذكريات, أم تسأل الزمن كي يكفّ عن الدوران لتتيقّن من ماهية وجودها على بقعة الحياة؟ أم عليها أن تسأل الجراح كفكفة الدمع إذ أسقط سدّ الأوجاع؟”.

هذه الشاعرية بنظري هي ميزة أنثوية, وهي ما أنقذ الكاتبة – نوعًا ما- من الوقوع في محذور  الترهّل و الإسفاف بسبب الاعتماد على صوت واحد يطغى على كل الرواية, وهذا حقيقي, فالرواية هي قطعًا رواية الصوت الواحد, ذات الشخصية المحورية الواحدة, رواية منولوجية تقليدية, يكثر فيها السرد على حساب الحوار, حتى المناجاة مقصورة على ذات الشخصية, وهي سطوة من الكاتبة بلسان الشخصية المحورية, فرضت عليها إطلاق الذات الشاعرة, لتعزّز دور الشخصية المحورية, وتملأ فضاءاتها بأصداء شكواها و خيباتها, وأصداء أحلامها التي تلهث فيها باحثة عن منفس الأمان لروحها التعبة, وبذلك تؤمّن الكاتبة إطلاق طرحها من رؤية سيكيوأيديوجية واحدة, يتم التجييش لها عبر السرد والحبكة, مع انحسار كبير لباقي الأيديولوجيات التي تُقيّد حريتها, فلا تنطق إلّا ضمن فسحة محدودة تجود بها عليها الشخصية المحورية, لكن يُحسب للكاتبة أنها تمكّنت- وبذكاء شديد- أن تجسّد حالة نفسية  بدرجة مرَضيّة معينة ( الأنا المهزومة) بكل أعراضها المصاحبة, في شخص (بانسيه), التي تكون مغرقة   من الاستحضار الكبير للأنا المظلومة التي تستحق الأفضل على الدوام, ولا يليق بها الواقع المؤلم أبدًا,  لذلك نراها تشكو بصوع عالٍ, ثم تهجع بمرض أو تجلّي ( كما حصل بالمولد) أو بمحاولة انتحار, ثم تعود لتتشبّث بالحياة, لكن ضمن إطار شكواها التي لا تنتهي, أي تتصرف بدلال طفولي شديد اللهجة, تريد فقط  من يسمعها هي, لكن لم يسمعها إلا ذاتها, و من سمعها يملّ شكواها, لأنها أترعت و بالغت كثيرًا في الشكوى, حتى أنها مع أعز صديقاتها لا يهمّها أن ياسمين لا تحدّثها عن أولادها, ف (ياسمين) لا تعاني معاناة بانسيه, ما يهمها فقط أن ياسمين كانت بمثابة البلسم الذي يداوي دومًا جراحها…

 وهي تبتغي طبيبًا يعالج روحها النازفة, لا أقول أنها مريضة نفسيًّا, وإنما هي مريضة شعوريّا, فلو كانت مريضة نفسيّا لما راجعت طبيبًا نفسيًّا, فالمريض النفسي لا يعترف بأنه مريض أبدًا, ولا يراجع الطبيب النفسي من ذاته…

ليست مريضة لكنها مصابة بداء المغالاة بما تحب,

كما أننا لم نرَ نبيل إنسانًا طبيعيًّا إلّا وهو مغرم ببانسيه, كان وقتها الإنسان الكريم المحب العطوف الذي أغدق عليها ماديًّا ومعنويًّا, وبعدها عجزنا عن قراءته إلّا من خلال ما تمليه بانسيه علينا, مبرّرة لنا تحوّله بحسها الأنثوي, يأسه منها من ناحية الإنجاب, جعله يهملها ويحاول إهانتها بطعنها بأكثر المواضع إيلامًا عند الأنثى,  ألا وهو شعورها وحسها الأنثوي عن طريق استفزاز غيرتها, لنجدها تتجرّد من منطق العقل الذي يثبت الحقائق بمقتضى العلم التجريبي لتُحلّ مكانه اللامنطق القائم على الظنون والتهيؤات التي تضخّمها لها الأنا الأنثوية المهزومة أمام إنجاز  حلم الإنجاب, وإن كانت بانسيه تشعر بالتهميش بشكل نراه مبالغًا فيه, لكنه شعورها الحقيقي في موضع حالها من الواقع, وهذا الشعور من الصعب جدًّا أن يأتي به الكاتب بذات حقيقته كما أتت به الكاتبة, وهذا ما يميز الأدب النسوي, وهذه هي الميزة الثانية للأدب النسوي, الكاتبة الأنثى قادرة تمامًا على استحضار الحالة الشعورية للأنثى ضمن إطار المعاناة النسوية أكثر بكثير من الكاتب الرجل, بينما كانت الكاتبة عبير العطار أقل قدرة على استحضار الحالة الشعورية لنبيل كرجل! فقط شخّصت سلوكه الذكوري بالنسبة إليها كأنثى, وعزته إلى تربيته وعقليته المتخلّفة بتقدير البطلة.

بينما نجدها أعطت المجال أكثر لعائشة لتشرح نفسها, لكن بقدر ضئيل, اختزلته بمفهوم الحسد والغيرة بين الأخوات!.

” أين الأيام التي كانت تختصني أمي فيها بكل الألعاب والفساتين وأنا صغيرة وحدي قبل أن تحمل بأختي لتنفجر براكين الغيرة, تأكل مني حلاوة الدلال الذي كنت أمتلكه دون منازع؟ كيف أستر حقدي الموجوع حين فقدتُ الاهتمام؟”.

وهذه هي الصفة الثالثة التي تميز المرأة عن الرجل , إيمانها العميق بالماورائيات والغيبيات الباراسيكولوجية, وهو علم الخوارق التي تحدث عند الإنسان بصفات متميزة عن الطبيعية, كأن يحس الإنسان بأشياء لا يحس بها الإنسان الطبيعي, أو يرى من وراء الجدار, أو يحس بحادث سيحدث له بعد دقائق( الحدس), وهو علم جديد يكشف ما يفعله المشعوذون والسحرة, ويجعل فعلُهم أمرًا علميًّا وليس شعوذة من جن.. وهذا يفسّرلنا سبب لجوء النساء أكثر من الرجال إلى المشعوذين والمزارات وحضور (الزار) وغيرها من الأماكن التي يتم فيها الحديث عن الغيبيات.  

رابعًا- الخاتمة:  أختم دراستي هذه باستنتاج هام جدًا:

 كانت فرصة جميلة أن تحملني هذه الرواية إلى أفاق جديدة في الأدب النسوي, لأقف على استنتاجات لمستها حقيقة, وهي أن الأدب النسوي لم يكن أدبًا شاملًا للمرأة والرجل للكتابة فيه, لكنه أدب ذو خصوصية عالية تنفرد الأنثى بكتابته لكونها كيان مستقل أنثوي, له مميزاته الخاصة كما للفحولة مميزاتها, ومن الظلم المقارنة بين الأدب النسوي والأدب الذكوري, وأهم مميزاته ما اصطدمت به أنا كناقدة في هذا التحليل وهي :

الشاعرية المرهفة عند الكاتبة الأنثى التي تكون فيها مغالاة بما تحب.

الكاتبة الأنثى قادرة تمامًا على استحضار الحالة الشعورية للأنثى ضمن إطار المعاناة النسوية أكثر بكثير من الكاتب الرجل.

 وهذه هي الصفة الثالثة التي تميز المرأة عن الرجل, إيمانها العميق بالماورائيات والغيبيات الباراسيكولوجية.

أتمنى أن أكون قد وفّقت بالإحاطة بجوانب ومفاصل هذه الرواية الماتعة بدراستي المتواضعة هذه.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :