سالم الهمالي
بعيدا عن التيارات والتوجهات السياسية التي تقود البلدان في أي مرحلة من مراحل تاريخها تحتفظ معظمها إن لم أقل كلها بما يمكن تسميته الأرشيف والذاكرة الوطنية، بما يوثق الحوادث ومجريات الأمور خلال كل ما يحدث فيها. ولعل من أشهر تلك العلامات ما ينشر من وثائق بعد مضي فترة الحجز أو التعتيم عليها باعتبارها من أسرار الدولة، وتتراوح المدد في العادة فيما بين (25-30) سنة، تنفك بعدها الطلاسم ويُعرف ما كان يجري في الكواليس ووراء الأبواب المغلقة وبالرسائل الدبلوماسية المشفرة.
بذلك، أصبح لدى تلك الدول والمجتمعات تراكما معرفيا، يمكن الاستفادة منه والتعلم بما يعزز الفائدة ويقلل من الأخطاء والاطلاع على تلك الوثائق وقراءة محتوياتها يشكل ركنا أساسيا في فهم منعطفات التاريخ، مثل؛ كيف تهيأت ظروف الحروب، أو نشوء الحضارات أو انحسارها. فمن يريد أن يتعرف على حرب السويس سنة (1956) لا يمكنه التغافل عن الوثائق البريطانية التي دونت حركات وسكنات أنتوني أيدن على سبيل المثال. وكما ألمحت بالابتعاد عن التيارات السياسية، وبغض النظر عن صلاحها من عدمه، يمكن إدراك تاريخ الدبلوماسية المصرية بقراءة ما كتبه وزراء خارجيتها في مذكراتهم عبر السنين. هنا تجدر ملاحظة هامة وأساسية لفهم دواليب الإدارة المصرية، إذ أن أغلب إذا لم يكن كل من اعتلى منصب وزارة الخارجية “سليل” لهيكلها، متدرجًا من خريج جامعي ثم باحث، فمستشار ثالث، يعتلي السلم خطوة خطوة، حتى يصبح مدير مكتب وزير الخارجية ثم نائبا له، وآخر محطاته تمثيل بلاده دبلوماسيا عبر العالم، … بل يمكن التنبؤ بمن سيكون أمينًا للجامعة العربية من خلال معرفة تلك السيرة! كل هؤلاء، وبدون استثناء تركوا كتبا وإصدارات تؤرخ لمراحل توليهم تلك المناصب، توثق تاريخ العلاقات المصرية من مراسلات الرئيس مع الزعيم الروسي خروشوف إلى دهاليز كامب ديفيد. محاولة معرفة التاريخ الليبي بالبحث في الأرشيف أو قراءة مذكرات الوزراء على سبيل المثال تصطدم بخواء وفقر مدقع، باستثناء مذكرات بن حليم والصيد (رحمهما الله) لا تكاد تجد أثرا غير ذلك. تبدو هذه المعضلة ظاهرة للعيان، وما يزيد مِن ثقلها أن عددا كبيرا ممن تولوا هذه المناصب الرفيعة أتوا إليها بالصدفة وبدون سابق خبرة أو معرفة، ناهيك عن المؤهل والتسلسل المهني. ربما أكون قد وجدت الإجابة عن تساؤلي بنظرة سريعة على من تبوؤوا مناصب السفراء خلال العقود الماضية، فمنهم من لم تطأ قدماه وزارة الخارجية بالمطلق، ولا يمتلك من اللغات الحية شيئا سوى “الرميكي”. وحتى لا أكون مجحفا، لا ينبغي نسيان قلة قليلة من السفراء والوزراء الأكفاء الذين تقلدوا هذه المناصب في ليبيا، فهم يستحقون التحية والامتنان، في انتظار قراءة مذكراتهم لنتعرف على جزء مهم من تاريخ بلادنا، إلا الأرشيف فيبدو أنه … عدّى في الدهامة!!