الأزمة الليبية: التأويل والمآلات

الأزمة الليبية: التأويل والمآلات

موسى الأشخم

  تنصرف الأزمة لغة إلى الشدة والقحط، ويقال: أصابتنا أزمة وآزمة أي شدة، وتنصرف اصطلاحاً إلى حالة طارئة تتعطل فيها آليات عمل الدولة أو المؤسسة جزئياً أو كلياً بما من شأنه عدم القدرة على تحقيق الأهداف التي من أجلها تأسست تلك الدولة أو المؤسسة. وتبلغ الأزمة ذروتها حين تهتز القيم والمبادئ والأسس التي بنيت عليها الدولة أو المؤسسة.

  ويعرف قاموس Random الأزمة بأنها:” ظرف انتقالي يتسم بعدم التوازن ويمثل نقطة تحول تتحدد في ضوئها أحداث المستقبل التي تؤدي إلى تغيير كبير”. وفي علم الاجتماع وعلم النفس تعرف الأزمة على أنها نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها فرد أو أسرة أو جماعة أو دولة. ويعرفها كريبس Krebs  بأنها ” أحداث غير روتينية تحدث في زمان ومكان معين وتؤدي إلى إلحاق خسائر وأضرار مادية بالمجتمع ووحداته المختلفة بالإضافة إلى حدوث خلل في الوظائف الحيوية في المجتمع نفسه”. ويعرفها الاقتصاديون بأنها ” اضطراب حاد ومفاجئ في بعض التوازنات الاقتصادية، يتبعه انهيار في عدد من المؤسسات المالية، ثم تمتد هذه الانهيارات والتغيرات إلى الأنشطة والقطاعات الاقتصادية الأخرى”. أي أنها اضطراب مفاجئ يطرأ على التوازن الاقتصادي وينشأ عن اختلال بين المتغيرات الاقتصادية الأساسية كالانتاج والاستهلاك أو العرض الكلي والطلب الكلي، وعادة ما ينتج عنه ارتفاع معدلات التضخم أو البطالة أو الاثنين معاً.

  وهذه المقالة ترى بأن الأزمة الليبية وقعت في عام 2011م، ضمن مشروعات أمريكية وغربية ترمي إلى تفكيك الدولة الوطنية في المنطقة العربية والإسلامية، تم تنفيذها تحت لافتة العمل على نشر الديمقراطية في المنطقة، وأدت إلى إشعال حروب أهلية وطائفية مستهدفة، ترمي كما أسلفنا إلى تفكيك دول المنطقة وتحويلها إلى بلدان فاشلة.

مظاهر الأزمة الليبية:

  تتمثل مظاهر الأزمة الليبية في التالي: تعدد الحكومات وتشظي مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والمالية، بما في ذلك المؤسسات الأمنية والعسكرية، وهو ما أدى إلى انهيار مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والشرطة، وتحجيم دور القضاء؛ كما ترتب على ذلك الكثير المآزق والتي يمكن حصرها في: تهديد الأمن الشخصي والعائلي لليبيين، وتهديد أمنهم الغذائي، وأمنهم المائي، وامداداتهم من الطاقة، وإمداداتهم من الوقود. بالإضافة إلى تفشي ظاهرة التشبث بالسلطة، فيما عرف بظاهرة التمديد الذاتي للسلطات المنتهية ولايتها، وتفشي ظاهرة نهب المال العام، وتنامي دور الميليشات في السيطرة على مفاصل الدولة، وصناعة الحروب الأهلية، وكذلك تفشي ظواهر القتل والاختطاف، والاعتداء على المال العام والخاص على السواء، وتفشي ظاهرة الإفلات من العقاب. ولعل أكثر ما يفاقم الأزمة الليبية يتمثل في ارتهان الإطراف المتصارعة على السلطة في ليبيا إلى الخارج.      

تأويلات الأزمة الليبية:

  يمكننا تصنيف الرؤى المتعلقة بما جرى في ليبيا خلال العشرية الماضية (2011-2022) إلى تصنيفين رئيسيين: الرأي الأول: ويتبناه المؤيدون لأسلوب الدمقرطة من الخارج ويضم كافة المولعين بتقليد الغالب حضارياً ولا يجدون غضاضة في الخضوع له، والذين يندرج بعضهم فيمن صنفهم فرانز فانون بحثالة البروليتاريا، بينما يندرج غيرهم فيما يمكن تسميتهم بحثالة البرجوازية، وكذلك حثالة التكنوقراط. وتنصرف حثالة البروليتاريا لدى فانون إلى أصحاب المهن التي ترتبط مصلحياً بالحضور الأجنبي في البلاد كالمرشدين السياحيين، وعمال الفنادق والمقاهي في المناطق السياحية، وسائقي سيارات الأجرة والعاملين بمزارع الأجانب وبيوتهم ومن في حكمهم. بينما تنصرف حثالة البرجوازية كما ترى هذه المقالة إلى وكلاء الشركات الأجنبية، والمستفيدون من الاعتمادات المستندية للاستيراد من الخارج، والانفتاح الاقتصادي على الخارج على نحو عام، وتنصرف حثالة التكنوقراط إلى حملة الشهادات التخصصية من الجامعات الغربية، والتي ترتبط مهنهم وتخصصاتهم بالمؤسسات والمصالح الغربية. وإجمالاً يمكن أدراج هؤلاء ضمن تصنيف جمعية المنتفعين مما جرى خلال هذه العشرية السوداء وما زال يجري إلى اليوم. وهؤلاء يرون بأن ما وقع في ليبيا خلال تلك العشرية ثورة لا تقل أهمية عن الثورة الفرنسية، وأنها قد يتجاوز تأثيرها الحدود الليبية إلى كافة أنحاء العالم، كما حدث للثورة الفرنسية، فقط علينا أن ننتظر وألا نتعجل النتائج. الرأي الثاني: ويتبناه المناوئون لأسلوب الدمقرطة من الخارج، ويرى بأن ما حدث مؤامرة غربية ترمي إلى التخلص من النظام الجماهيري، والتخلص من القذافي، الذي كان يشكل ظاهرة مناوئة للسياسات الأمريكية والغربية في المنطقة، وإلى تنصيب نظام حكم تابع وعميل للولايات المتحدة والغرب في ليبيا، التي تتمتع بموقع استراتيجي هام، وموارد طبيعية هائلة. وتضيف هذه الورقة رأياً ثالثاً يقول بأن ما حدث في ليبيا خلال العقد الماضي لا يتجاوز كونه جزءاً من مشروعات عبء الرجل الأبيض لنشر الديمقراطية، الذي تبنته إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ونفذته باقتدار أدارة الرئيس اوباما، وترمي تلك المشروعات خلافاً لما هو معلن إلى نشر الحروب الأهلية والطائفية في بلدان المنطقة العربية، وذلك لتوطين ما سمي بالإرهاب الإسلامي فيها من جهة، ولتحويلها إلى بلدان فاشلة من جهة آخرى.

خلفيات الأزمة الليبية:

  انقسم الباحثون والمراقبون والسياسيون في تشخيص الأسباب والعوامل التي خلقت الأزمة الليبية وفقاً لمواقفهم من أسلوب الدمقرطة من الخارج؛ حيث رأى المؤيدون لإسلوب الدمقرطة من الخارج بأن الأزمة الليبية خلقتها قوى الثورة المضادة وقوى الدولة العميقة؛ إذ يرون بأن الجهاز البيروقراطي للدولة في ليبيا يدين بالولاء للنظام السابق، ومن ثم نجح هذا الجهاز في تثبيط الانتقال الديمقراطي، وتعطيل آليات التغيير، التي استخدمتها ثورة 17 فبراير، فوقعت الثورة في الأزمة. بينما رأى الرافضون لأسلوب الدمقرطة من الخارج بأن الأزمة مرتبطة بعقم آليات فرض الديمقراطية من الخارج أو عدم مصداقيتها. وترى هذه الورقة بأن ما جرى في ليبيا غزواً خارجياً يعتمد أسلوب الجيل الرابع من الحروب، الذي كما أسلفنا يستخدم قوى المعارضة في الداخل وقوى المعارضة في الخارج، وجماعات الإسلام السياسي ككتائب صدام أمامية لإتمام عملية الغزو، وبعد اكتمال الغزو تُركت البلاد نهباً لكتائب الصدام الأمامية تلك، والتي تعاملت مع موارد الدولة الطبيعية والسيادية، ومع مواقع السلطة والإدارة العليا في البلاد ككعكة، تنشد كل جماعة مسلحة الحصول على أكبر نصيب منها. ودعنا هنا نختبر مدى صحة الاطروحتين المذكورتين آنفاً.

الأطروحة الأولى:الأزمة صنعتها الثورة المضادة:

  يردد المؤيدون لأسلوب الدمقرطة من الخارج أطروحة تقول: إن أزمات ثورات الربيع العربي على نحو عام، والثورة الليبية على نحو خاص خلقتها الثورات المضادة، وتنصرف الثورة المضادة في نظرهم إلى الجهود التي يبدلها أنصار النظام السابق لعرقلة الانتقال الديمقراطي؛ والقول بأن أنصار النظام السابق هم وراء الأزمة في ليبيا، لا يتجاوز محاولة المتنفذين من القيادات الفبرايرية، إخفاء دور التدخلات الخارجية في صناعة الأزمة من جهة، وتعليق مشاكلهم وسقطاتهم وخلافاتهم على مشجب النظام السابق من جهة آخرى، ذلك أن أنصار النظام السابق في ليبيا تعوزهم الفعالية؛ حيث انتقل عدد لا بأس به منهم إلى رحمة الله، وسجن عدد كبير منهم، وهُجّرت اعداد أكبر منهم إلى أماكن شتى في بلدان العالم، وجلهم هجّر إلى تونس ومصر، ومورس العزل السياسي والإداري على من تبقى منهم في الداخل، ويكاد لا يكون لهم أثر يذكر في المنازعات حول السلطة في البلاد.

الأطروحة الثانية: الأزمة صنعها أسلوب الدمقرطة من الخارج:

  يرى المعترضون على أسلوب الدمقرطة من الخارج، بأن أزمات ثورات الربيع العربي على نحو عام، والثورة الليبية على نحو خاص، خلقتها التدخلات الخارجية، والتي تقنّعت بقناع العمل على نشر الديمقراطية؛ ذلك أن صنّاع السياسات وصناع القرار في الولايات المتحدة، لا ينشدون بتدخلاتهم في بلدان المنطقة العربية عموما وفي ليبيا خصوصاً صناعة الديمقراطية، بل ينشدون خدمة المصالح الامريكية والغربية في المنطقة أو في ليبيا؛ فالولايات المتحدة والبلدان الغربية لم تتوقف عن استخدام الدمقرطة كأداة لسياساتها الخارجية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث استخدم صنّاع السياسات، وصناع القرار في الولايات المتحدة، مسألة الدمقرطة وحقوق الإنسان، منذ الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير وحتى اليوم، كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان النامية، وباشرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تلك السياسات في بلدان أمريكا الجنوبية خلال حقبة الحرب الباردة، ثم تمدد ذلك الاهتمام بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ليشمل أوروبا الشرقية، في حين تأجل الاهتمام بالدمقرطة وحقوق الإنسان فيما يسميه الغربيون بالشرق الأوسط، إلى ما بعد حادثي برجي التجارة العالمية. وحين تكون الأهداف الأمريكية غير المعلنة لتدخلاتها في بلداننا، مخالفة للأهداف المعلنة، تصنع تلك التدخلات الأزمات ولا تحقق الأهداف المعلن عنها؛ ذلك أن الأهداف غير المعلنة تتناقض مع الغايات المعلن عنها.   

  ويقفز المتبنون للأطروحة الأولى على حقيقة ثابتة، وهي أن الدمقرطة من الخارج تجعل الثورات أو الفعل الثوري صناعة أجنبية بالكامل وبطريقة تسليم المفتاح، حتى وإن شغلت شركات المقاولات الغربية عمالة محلية، فالدور الأكبر مناط بالشركات الأمنية ومراكز التدريب على الديمقراطية، وما المجندين المحليين سوى كتائب صدام أمامية، جلها دربته تلك المراكز والشركات ووظفته لإنجاز استراتيجة الدمقرطة من الخارج، وذلك لإضفاء صبغة وطنية ودينية على عمليات الدمقرطة المستهدفة. ثم أن الممارسة العملية أبانت عن غايات أخرى غير معلنة لتلك الاستراتيجيات، ترمي إلى صناعة حروب أهلية وطائفية، وتحويل دول المنطقة إلى دول فاشلة وتابعة. وهو ما يدلل على أن ما جرى ليست ثورات ديمقراطية وطنية، بل عمليات غزو استخدم فيها صنّاع السياسات وصنّاع القرار قوى المعارضة المحلية والمهاجرة ككتائب صدام أمامية، لإتمام عملية الغزو، وإدامة الفوضى والحروب الأهلية، لإشغال المتطرفين الإسلاميين في حروب محلية، حتى لا يتفرغوا لعمليات تفجير تستهدف حواضر الغرب كما جرى في نيويورك عام 2000م، عند استهداف برجي التجارة العالمية، هذا إن صدقت الرواية الرسمية لما جرى 11 سبتمبر. ثم إن الذين ركبوا قطار الدمقرطة الأمريكي لا يملكون حتماً تحديد وجهته؛ فالذي لا يركب القطار من محطته الأولى ولا يجلس في عربة القيادة فيه لا يتحكم عادة في خط سيره.

النخب الأمريكية ودمقرطة المنطقة: 

  اختلف المنظرون الأمريكيون حول كيفية دمقرطة العالم على نحو عام، ودمقرطة بلدان الشرق الأوسط على نحو خاص. ويمكننا تصنيف نظريات الدمقرطة من الخارج التي تبنتها النخب الأمريكية إلى تصنيفين رئيسيين: رأى أصحاب التصنيف الأول إمكانية الدمقرطة من خلال العدوى، بينما رأى أصحاب التصنيف الثاني إمكانية فرض الدمقرطة من خلال السيطرة والإكراه. لقد رأى أصحاب الرأي الأول بأن رياح الدمقرطة هبت على العالم منذ أن طرح ميخائيل غورباتشوف اطروحاته عن البيريسترويكا والغلاستنوست. واستدلوا على ذلك بنجاح الثورات الملونة في اوروبا الشرقية، وتسرب ظاهرة الانتخابوية إلى العراق وبقية بلدان الخليج العربي. بينما رأى أصحاب الرأي الثاني بأنه من الأنسب نشر الديمقراطية من خلال الإكراه، كما جرى في بعض بلدان أمريكا اللاتينية أو من على ظهر الدبابات الأمريكية كما جرى في أفغانستان والعراق. وهو ما حرص صانعو السياسات ومتخذو القرار في الولايات المتحدة على تنفيذه، خلال إدارة الرئيس أوباما في خمس دول عربية هي تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.    

  وفي حين تنضم النخب العربية إلى الجوقة الإعلامية والأكاديمية المصاحبة لسيناريوهات العبء الأمريكي لنشر الديمقراطية، يعترف بعض الباحثين الأمريكيين بالمرامي الامبريالية لتلك السيناريوهات؛ حيث يقول ايريك هوبزبوم Eric Hobsbawm: “يغيب عن بالنا كلياً أحياناً أن القوى الكبرى وهي تتابع سياساتها الدولية، قد تقوم بأشياء تتطابق وحملات الدفاع عن حقوق الإنسان، وتكون مدركة للشعبية المتأتية عن أفعالها، ولكن ذلك لا علاقة له بأهدافها الأصلية، التي لو تطلبت متابعة مغايرة لما كانت مختلفة عن الهمجية الوحشية، الإرث الذي كان للقرن العشرين” ويسمي الممارسات الأمريكية التي تستخدم حقوق الإنسان كذريعة للغزو والتدخل في شؤون الدول الأخرى بـ” امبريالية حقوق الإنسان”.   

  وتمثل مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية، الخطوة الأولى والأكثر أهمية في سياق العبء الأمريكي للدمقرطة في منطقتا العربية. حيث بدأت تلك المبادرة بإعلان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إطلاق استراتيجية التقدم بالحرية في الشرق الأوسط، والتي أعلنها في خطابه بمناسبة الذكرى العشرين لإنشاء صندوق الهبات الأمريكي لدعم الديمقراطية National Endowment for Democracy ، والذي قال فيه:” وعلى ذلك فقد وضعت الولايات المتحدة سياسة جديدة لإستراتيجية التقدم بالحرية في الشرق الأوسط؛ وتقضي هذه الاستراتيجية منا العزيمة والقوة والمثالية نفسها، التي كثيراً ما أظهرناها من قبل وهي سوف توصل إلى النتائج عينها كذلك، وكما في أوروبا وآسيا وفي كل منطقة من العالم فإن التقدم في الحرية يقود إلى السلام. وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية صنعها المحافظون الجدد زمن إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، غير أنها انتظرت حتى إدارة الرئيس أوباما لتتحول إلى ممارسة واسعة، اسقطت النظم السياسية القائمة في تونس ومصر واليمن وليبيا، وخربت سوريا وليبيا واليمن وأشعلت فيهن حروباً أهلية وطائفية قد لا تتوقف قبل ثلاثة أو أربعة عقود.   

 المبادرات الغربية لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية:

  عندما وجد المتحكمون في مركب المال والسلاح في الولايات المتحدة أنفسهم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي فجأة بدون كابح أو موازن دولي، قرروا أن الفرصة سانحة للتمدد الامبريالي، والشروع في السيطرة على العالم، ومن ثم جدّوا في البحث عن الذرائع لذلك التمدد. ووجدوا ضالتهم في ملفّي الحرب على الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة التدمير الشامل، ليكونا أقوى ذريعتين ومسوغتين لذلك التمدد. وخدم حادث تفجير برجي التجارة الدولية في 11/9 هذا التوجه خدمة لا تقدر بثمن، الأمر الذي عزز أطروحة نائب وزير الدفاع الألماني الأسبق التي لا تقتصر على القول بالتواطؤ الأمريكي مع منفذي الحادث، بل تذهب إلى حد القول بالتنفيذ الأمريكي له كما يقول اندرياس فون بولوف. 

ونتج عن هذا الحادث في الولايات المتحدة ما يمكن تسميته بحمّى تأييد التمدد الامبريالي. حيث جند الأكاديميون بمراكز التفكير Think Tanks أنفسهم لتبرير ذلك التمدد، فظهرت مفاهيم الدولة المفلسة، والدولة الفاشلة، التي لا تستطيع أن تفي بالتزاماتها الدولية. وفي مقدمة تلك الالتزامات؛ القضاء على الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة النووية. ومن ثم فالولايات المتحدة الأمريكية لها الحق في التدخل لفرض أوضاع سياسية وأمنية، من شأنها حماية رعاياها من شرور الإرهاب، ونقل المعركة مع الإرهابيين إلى عقر دارهم، والحيلولة دون انتشار الأسلحة النووية.

  وعلى أثر ذلك تحركت آلة الحرب الأمريكية باتجاه كلّ من أفغانستان والعراق، بحجة محاربة الإرهاب في الأولى، وبحجج مرتبكة في الثانية، بدأت بحجة منع العراق من امتلاك أسلحة التدمير الشامل، ثم انتهت إلى محاولة الربط بين النظام العراقي وشبكات الإرهاب، والدعوة إلى القضاء على النظام العراقي. وتنبهت الإدارة الأمريكية متأخرة إلى أن هاتين الذريعتين أنانيتان ولا تراعيان أية مطالب أفغانية أو عراقية محلية، فخرجت على العالم بمشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. وهو ما سمي بمبادرة الشرق الأوسط الكبير التي تهدف إلى إضفاء مسحة أخلاقية على التمدد الامبريالي الأمريكي. واستندت المبادرة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط على أطروحة أمريكية تقول: بأن أحد المصادر الأساسية للإرهاب يتمثل في غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن ثم فإنه لا ينبغي الركون إلى أنظمة مستقرة وصديقة للولايات المتحدة في المنطقة، وعوضا عن ذلك ينبغي نشر الديمقراطية والرفاه الاقتصادي بها. عبرّ عن ذلك مبكرا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول وريتشارد هس مدير مكتب التخطيط السياسي بوزارة الخارجية، وربطت الإدارة الأمريكية بين مبادرتها لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وتقرير التنمية البشرية العربية الذي أشار إلى النقص في المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات، وإلى غياب الديمقراطية والحريات الأساسية، وضعف مشاركة المرأة في الحياة العامة في البلاد العربية. وأعلن الرئيس الأمريكي بوش في خطابه أمام الصندوق الوطني لدعم الديمقراطية في 6/11/2003  مبادرتهGreater Middle East Initiative    لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط مبررا ذلك بالقول “إن تغاضي الأمم الأوربية عن نقص الحريات في الشرق الأوسط كان هو المسئول عن التهديدات الأمنية الصادرة عنها”.

  وقدمت الولايات المتحدة هذه المبادرة إلى قمة الدول الصناعية الثمانية فتبنتها مع إضافة بعض التعديلات التي تركزت حول ضرورة التعاون مع النظم السياسية العربية القائمة، وعدم العمل من وراء ظهرها وعدم فرض الديمقراطية من الخارج. وسمي الإعلان المشترك للمجموعة حول الشرق الأوسط بالشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك  Partnership for Progress and common future من أجل دعم الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا.

  نخلص من ذلك إلى القول بأن المبادرات الغربية لنشر الديمقراطية مثلت الغطاء السياسي لحروب الجيل الرابع، التي ترمي إلى نشر الحروب الأهلية والطائفية في بلدان المنطقة، وتحويلها إلى دول فاشلة، وهذا ما وقع في العراق وليبيا وسوريا واليمن. بينما أفشل الجيش والشعب والقوى السياسية المصرية في مصر تحويل مصر إلى دولة فاشلة، وحافظت غرفة عمليات الجيل الرابع لحروب الولايات المتحدة في المنطقة على مؤسسات الدولة في تونس، لا لشيء إلا لتكذيب نظرية المؤامرة، وتقديم تونس كمثال ناجح للربيع العربي وهو ما ذكره الرئيس الفرنسي هولاند عند استقباله لقطبي النزاع السياسي في تونس الغنوشي وقائد السبسي، الغزو الذي أراد صناع السياسات وصناع القرار في الولايات المتحدة إلباسه قنّاع الثورات الديمقراطية. 

ليبيا وسيناريوهات الدمقرطة:      

  بدأت سيناريوهات صناعة الدمقرطة من الخارج في ليبيا، بإعلان الولايات المتحدة العداء للنظام السابق. والذي بدأ مبكراً منذ منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي، حين قررت إدارة الرئيس ريجان التخلص من معمر القذافي ونظامه الجماهيري، فأرسلت فرق الاغتيالات والتي كان اشهرها فرقة الكوماندوس التي تحصنت بالقرب من منزل القذافي بباب العزيزية، ثم قررت إحالة ملف اغتيال القذافي إلى البنتاجون الذي تولى توجيه ضربات جوية، تركزت على قصف منزل معمر القذافي في باب العزيزية في طرابلس، غير أن تلك المحاولات كان مآلها الفشل. وتجدد الحرص على التخلص من القذافي في زمن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الذي تولى فيه المحافظون الجدد جل المواقع القيادية في إدارته ونجحت مراكز التفكير Think tanks في ظل إدارته في تطوير أجيال جديدة من الحروب، لعل أهمها ما قيل بأنه الجيل الرابع من الحروب، والذي يعتمد بشكل أساسي على تجنيد قوى المعارضة المحلية والمهاجرة لدى الغرب، وكذلك جماعات الإسلام السياسي المولعة ببعث دولة الخلافة، وتسليحهم والدفع بهم لإشعال حروب أهلية وطائفية في ليبيا والمنطقة العربية، يتم إدارتها من خلال مبعوثين أمريكين ودوليين يتظاهرون بالعمل من أجل إنهاء تلك الحروب، وهم يعملون من أجل إطالة آمدها. وهو ما تولت تنفيذه إدارة اوباما ليس في ليبيا فحسب بل في خمس دول عربية هي تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.  

الجهود المبذولة لحل الأزمة الليبية:

  تركزت الجهود الدولية لحل الأزمة الليبية – وفق الظاهر- على محاولة التوفيق بين الأطراف التي استخدمها الغرب ككتائب صدام أمامية في غزوه لليبيا، دون غيرها من القوى؛ وذلك للحيلولة دون عودة أنصار النظام السابق لتصدر المشهد السياسي في ليبيا. بينما تعمل تحت الطاولة على تأجيج الصراع بينها، ولم تتوقف المنازعات بين تلك الأطراف منذ تقويض سلطة المؤتمرات الشعبية التي اختزلها خصومها في التسمية المتعمدة “نظام القذافي”. وفي حين غضت القوى الكبرى النظر عن النزاعات التي نشبت منذ 2011م، وحتى انتخاب مجلس النواب السلطة التشريعية البديلة للمؤتمر الوطني، البرلمان السابق الذي سيطرت عليه جماعات الإسلام السياسي، خصت تلك القوى النزاع الذي نشب بين مجلس النواب وداعميه من جهة والمؤتمر الوطني المنتهية ولايته وداعميه من جهة آخرى بالاهتمام، ومحاولات ايجاد الحلول لها. ولقد مر قطار الجهود الدولية المبذولة – وفق الظاهر- لحل ذلك النزاع بعدة محطات مفصلية نذكر منها:

اتفاق الصخيرات:

سعى اتفاق الصخيرات إلى تسوية النزاع بين طرفي النزاع: مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه، اللذان اتخذا من طبرق وبنغازي مقراً لهما، والمؤتمر الوطني العام والحكومة المنبثقة عنه واللذان اتخذا من طرابلس مقراً لهما. حيث أنشأ الاتفاق مجلساً رئاسياً تولت مهامها في طرابلس في مارس 2016م. وكلف المجلس بتشكيل حكومة وحدة وطنية لم يصادق عليها مجلس النواب المخول حسب الاتفاق بالمصادقة على الحكومة ومساءلتها، كما أنشأ أيضاً مجلساً أعلى للدولة اختير أعضاؤه من بين أعضاء المؤتمر الوطني العام البرلمان المنتهية ولايته. ونص الاتفاق على أن يستحوذ مجلس النواب على سلطة التشريع واعتباره البرلمان الوحيد، وأن يؤكل إليه صلاحية المصادقة على حكومة الوحدة الوطنية. وفشل الاتفاق في أول اختباراته حين رفض البرلمان المصادقة على حكومة فائز السراج. وهكذا فإن الاتفاق ولد مشوهاً، وهو ما أفضى إلى نتائج مشوهة.

  واختلف أطراف الصراع حول كيفية تنفيذ المادة الثامنة من الاتفاق، لاختلافهم على من هو المخول بقيادة الجيش. وظل أطراف الصراع الموقعون على الاتفاق يتمسكون بتأويلات متباينة لبنوده، وباعتبارات تقنية قانونية، تدعم مواقفهم المتباينة من كيفية تنفيذ خريطة الطريق التي اشتمل عليها الاتفاق الذي صيغ على نحو مفخخ. الأمر الذي يعزز فكرة أن ما يرمي إليه مهندسو الاتفاق كان إدامة الاختلاف أو إدامة الأزمة وليس حلها وذلك ليتمكن الممسكون بخيوط اللعبة من قوى دولية وإقليمية من ضبط إيقاع الأزمة لمصلحتهم والحيلولة دون حلها، ذلك أن حل الأزمة قد يؤدي إلى ضعف دور تلك الأطراف في التحكم في خيوط اللعبة في البلاد وفي اختطافهم للقرار السياسي الوطني.

اتفاق برلين:

  انعقد مؤتمر برلين حول ليبيا في 19 يناير 2020، وجمع بدعوة من المستشارة أنجيلا ميركل، حكومات الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة، بما في ذلك الأمين العام وممثله الخاص في ليبيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. واستهدف المؤتمر التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول المعنية بالأزمة الليبية. وتركزت نتائج المؤتمر على التوافق حول نقطتين رئيسيتين: الأولى ضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف دائم لإطلاق النار في ليبيا، والثانية التعجيل بأجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.

اتفاق جينيف:

  تولت الممثلة الخاصة بالإنابة ستيفاني ويليامز العمل على تنفيذ بنود اتفاق برلين فشكلت ملتقى الحوار السياسي الليبي من 75 شخصية افضت اجتماعاته بجنيف إلى اختيار رئيس لحكومة الوحدة الوطنية، واختيار لجنة عسكرية عرفت بلجنة (5+5) وتكللت أعمال اللجنة العسكرية بالنجاح في اتخاذ بعض التدابير الهامة نذكر منها:

  1.  الوقف الفوري لإطلاق النار.
  2. 2-   إخلاء جميع خطوط التماس من الوحدات العسكرية والمجموعات المسلحة بإعادتها إلى معسكراتها بالتزامن مع خروج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من الأراضي الليبية برا وبحرا وجوا في مدة أقصاها 3 أشهر من تاريخ التوقيع على وقف إطلاق النار وتجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب في الداخل الليبي وخروج أطقم التدريب إلى حين استلام الحكومة الجديدة الموحدة لأعمالها، وتكلف الغرفة الأمنية المشكلة بموجب هذا الاتفاق باقتراح وتنفيذ ترتيبات أمنية خاصة تكفل تأمين المناطق التي تم إخلاؤها من الوحدات العسكرية والتشكيلات المسلحة.
  3. 3-   تشكيل قوة عسكرية محدودة العدد من العسكريين النظاميين تحت غرفة يتم تشكيلها من قبل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 تعمل كقوة تساهم في الحد من الخروقات المتوقع حدوثها على أن يتم توفير المواد اللازمة لتشغيلها من كافة الأطراف والجهات.
  4. 1-   تبدأ فورا عملية حصر وتصنيف المجموعات والكيانات المسلحة بجميع مسمياتها على كامل التراب الليبي سواء التي تم ضمها للدولة أو التي لم يتم ضمها، ومن ثم إعداد موقف عنها من حيث (قادتها، عدد أفرادها، تسليحها، أماكن تواجدها) وتفكيكها ووضع آلية وشروط إعادة دمج أفرادها وبشكل فردي إلى مؤسسات الدولة ممن تنطبق عليه الشروط والمواصفات المطلوبة لكل مؤسسة وبحسب الحاجة الفعلية لتلك المؤسسات أو إيجاد فرص وحلول لمن لا تنطبق عليه الشروط أو لمن لا يرغب بهذا الدمج، من خلال لجنة فرعية مشتركة بدعم ومشاركة البعثة.
  5. 2-   إيقاف التصعيد الإعلامي وخطاب الكراهية المتفشي حاليا من قبل مجموعة من قنوات البث المرئي والمسموع والمواقع الإلكترونية وتدعو الجهات القضائية والجهات المختصة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تكفل ملاحقة جادة ورادعة لتلك القنوات والمواقع، كما تدعو بعثة الأمم المتحدة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. ولهذه الغاية قررت اللجنة العسكرية المشتركة إنشاء لجنة فرعية منبثقة عنها لمتابعة خطاب الكراهية ومتابعة الإجراءات اللازمة بحقها، كما قررت اللجنة توجيه رسالة مباشرة إلى كافة قنوات البث المرئيس والمسموع لعدم بث أية مادة إعلامية تتضمن مثل هذا النوع من الخطاب.
  6. 3-   اتفقت اللجنة على فتح الطرق والمعابر البرية والجوية على كامل التراب الليبي على أن يتم اتخاذ الغجراءات العاجلة بفتح وتأمين الطرق التالية:
  7. الطريق الساحلي بنغازي سرت مصراتة.
  8.  مصراتة أبوقرين الجفرة سبها غات.
  9. ت‌-  طريق غريان الشويرف سبها مرزق.
  10. 4-   اتفقت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 على تكليف آمر حرس المنشآت النفطية في المنطقة الغربية وآمر حرس المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية ومندوب المؤسسة الوطنية للنفط بالتواصل وتقديم مقترح حول إعادة هيكلة وتنظيم جهاز حرس المنشآت النفطية بما يكفل استمرار تدفق النفط وعدم العبث به ورفع المقترح إلى اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.
  11. 5-   إيقاف القبض على الهوية أو الانتماء السياسي واقتصار الملاحقة والقبض على المطلوبين جنائيا وإحالتهم إلى الجهات المطلوبين لديها.
  12. اتفقت اللجنة على اتخاذ التدابير العاجلة لتبادل المحتجزين بسبب العمليات العسكرية أو القبض على الهوية وذلك بتشكيل لجان مختصة من الأطراف المعنية.
  13. في ظل الأجواء الإيجابية السائدة وعوامل الثقة التامة ستقوم لجنة 5+5 بالاشتراك مع فريق البعثة بإعداد آلية لمراقبة تنفيذ هذا الاتفاق.
  14. لا يسري وقف إطلاق النار على المجموعات الإرهابية المصنفة من قبل الأمم المتحدة على كافة الأراضي الليبية.
  15. توصي لجنة 5+5 وتحث البعثة على إحالة اتفاق وقف إطلاق النار الموقع من لجنة 5+5 إلى مجلس الامن لإصدار قرار لإلزام كافة الأطراف الداخلية والخارجية بتنفيذه.

كما تشكلت استناداً إلى نتائج مؤتمر برلين لجنة للترتيبات الأمنية المشتركة اجتمعت في مدينة الغردقة المصرية يومي 28 و29 سبتمبر 2020، ودعت إلى وضع ترتيبات لتأمين المرور الآمن للمدنيين وقوافل التموين والمنظمات الإنسانية عبر تلك الطرق وفقا لما يلي:

  • تشكل غرفة أمنية مشتركة على رأسها ضباط الشرطة اللذين شاركوا في اجتماعات الغردقة لاقتراح وتنفيذ ترتيبات أمنية خاصة تكفل المرور الآمن عبر الطرق المشار إليها والطرق الأخرى بكامل التراب الليبي وكذلك المناطق التي تم إخلائها من الوحدات العسكرية والتشكيلات المسلحة.
  • يتم اختيار رئيس الغرفة ومعاونيه وتحديد واجباتهم من قبل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.
  •  تخلى الطرق المستهدفة من أيه قوات عسكرية أو مسحلة بمجرد مباشرة القوة المشتركة لمهامها.
  • ث‌-  تتولى قيادة القوة المشار إليها تشكيل القوة المناط بها تأمين الطرق على أن يتم ذلك عبر وضع معايير الكفاءة والخبرة والانضباط موضع التنفيذ.

الانتقادات الموجهة للاتفاقيات المبرمة:

  1. غياب المشروعية: فالمشروعية عند الشعوب الحرة تستمد من إرادة الشعب، غير أن هذه الاتفاقيات لا تستند إلى ارادة الشعب الليبي، بل تستند إلى مشروعيات مفارقة للإرادة الشعبية أهمها مشروعيتين: الأولى: المشروعية الدولية والتي تختطفها القوى الكبرى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية بل وتختطفها غالباً الولايات المتحدة وحلف الناتو حتى من تلك القوى التي صنعت المنظمة الأممية. وحتى إن سلمنا بكونها مشروعية دولية وتعبر عن إرادة الدول الأعضاء في المنظمة الأممية، فإن الدول المستقلة لا تستند السلطة فيها إلى المشروعية الدولية، بل تستمد مشروعيتها من إرادة شعوبها وليس من الإرادات الدولية. الثانية: مشروعية صندوق الذخيرة والتي تختطفها القوى الدولية والإقليمية الداعمة للمليشيات، ومن ثم فهي أيضاً تستند إلى إرادات وأجندات أجنبية وغير محلية. وحتى لو سلمنا باستناد مشروعية صندوق الذخيرة إلى أطراف محلية فإن الشعوب الحرة لا تستمد السلطة فيها مشروعيتها من صناديق الذخيرة، وإنما من صناديق الانتخابات وفي الحالتين فإن المشروعية تستمدها الحكومات الحرة من شعوبها ولا تستمدها من غيرها.
  2. غياب التوافق: حيث تحرص القوى الصانعة أو المفبركة لتلك الاتفاقيات على تفخيخها، وذلك بترك الاشكالات الرئيسية دون حل؛ ذلك أنه ليس من مصلحة صنّاع الأزمات المسارعة إلى حلها جذرياً، وهم ما صنعوها إلا لمصالح وطنية لهم تتعارض حتما مع مصالح الليبيين، الذين توهموا بأن ما جرى ثورة خرجت عن السكة وأن هذه الأطراف الخارجية – لنزعة إنسانية أو مسيحية فيها تحاول أن تعيد تلك الثورة إلى السكة، وذلك بنثر الحلوى المخططة على أطفال الأطراف المتنازعة على طريق سانت كلوز.
  3. غياب الإرادة المحلية: جرى في العقد الماضي لبننة ليبيا؛ وذلك بإدخال ثقافة المحاصصة، والتعامل مع الوطن على أنه كعكة، تتقاسمها الأطراف المستحوذة على أكبر قدر من صناديق الذخيرة، ونظراً لتدفق صناديق الذخيرة من الخارج، ومن ذات الأطراف التي تدعي البحث عن حل للأزمة الليبية؛ فإن الإرادة الطاغية هي إرادة المصدرين لصناديق الذخيرة، وهو ما استبعد في المقام الأول الأطراف المدعومة من الشعب. ولعله استبعد حتى إرادة الميليشيات أو كتائب الصدام الأمامي للقوى الدولية والإقليمية المتصارعة على الكعكة الليبية لمصلحة داعميها.

  وعلى الرغم من الشروع في تنفيذ بنود اتفاق جينيف، وتشكل مجلس رئاسي جديد، وحكومة وحدة وطنية برئاسة عبد الحميد ادبيبة، إلا أن لعبة شد الحبل بين قطبي الصراع في طبرق وطرابلس لم تتوقف؛ حيث لم يعتمد البرلمان الميزانيات المقترحة من الحكومة، للاختلاف حول من يقود الجيش ومن يخول بالتصرف في الميزانية العسكرية. وإجمالاً لم تنجح المؤسسات المنبثقة عن اتفاق جينيف في إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في الموعد المقرر لها، بذريعة عدم الاتفاق حول قاعدة دستورية تجرى الانتخابات على أساسها.       

المآلات:

  إذا لم يتمكن الليبيون من حل أزمتهم فإن مآلات الأزمة ستكون مخيفة، ولن تتجاوز في تقديري حالات ثلاث:

الحالة الأولى: صناعة خطوط انتاج لحروب أهلية دائمة وبلا تتوقف، سيترتب عليها أزمات عديدة تنذر بتشظي البلاد، وما تبقى من مؤسساتها، وتدهور اقتصادها، إلى حدود تفشي الفاقة والمجاعات والتشرد، وتفشي الأوبئة، وانتشار الجريمة والحرابة، وسيطرة المجرمين وقطاع الطرق، وعصابات تهريب المخدرات على مناطق شاسعة من البلاد.

الحالة الثانية: لبننة البلاد؛ وذلك بتعميق الخلافات القبلية والمناطقية والعرقية، والدخول فيما يروج له دولياً من ديمقراطية المحاصصة القبلية والمناطقية والعرقية، ويصبح التوافق المحلي رهينة لتوافق الداعمين لتلك القوى القبلية والمناطقية والعرقية.

الحالة الثالثة: تقسيم وتجزئة البلاد إلى إلى كانتونات عرقية وقبلية ومناطقية، تتخذ مظاهر الدولة كالعلم والنشيد والعلاقات الدبلوماسية وما إلى ذلك، في حالة تشبه حالة ملوك الطوائف بالأندلس. 

إمكانيات وفرص حل الأزمة الليبية: 

  كما انقسم الباحثون والمراقبون والسياسيون في تشخيص الأسباب والعوامل التي خلقت الأزمة الليبية اختلفوا أيضاً في تصوراتهم لحل الأزمة وفقاً لمواقفهم من أسلوب الدمقرطة من الخارج؛ حيث رأى المؤيدون لإسلوب الدمقرطة من الخارج، بأن حل الأزمة الليبية يقتضي تضافر الجهود الدولية والإقليمية لحل الأزمة، التي ما كانت لتحدث لو لم تحجم القوى الدولية التي شاركت في إسقاط النظام السابق عن إكمال مهمتها، التي تتمثل في استعادة الأمن، ونزع أسلحة المليشيات، والتمكين للقوى السياسية التي ساهمت بفعالية في صناعة 17 فبراير. وكذلك العمل على القضاء على قوى الثورة المضادة، وقوى الدولة العميقة التي تعرقل الانتقال الديمقراطي، وتعطل آليات التغيير بأتجاهه. بينما رأى الرافضون لأسلوب الدمقرطة من الخارج، بأن حل الأزمة الليبية يقتضي توقف القوى الدولية والإقليمية عن التدخل في الملف الليبي، والتوقف عن آليات فرض الديمقراطية من الخارج التي تأكدت ذرائعيتها، وعدم مصداقيتها، وتوظيفها لخدمة مصالح وسياسات الدول المتدخلة في الملف الليبي.

  وتخلص هذه المقالة إلى القول: إنه لنتمكن من حل الأزمة الليبية، لا بد من تحييد إن لم نقل استبعاد كافة الذين ساهموا في صناعة الأزمة، واستفادوا من إطالة أمدها من القوى الدولية والإقليمية، وكذلك من الدول المجاورة من المساهمة في حل الأزمة. كما ينبغي بدل الجهود لإقناع القوى المحلية المستفيدة من الأزمة، بأن ما ستستفيده من الخروج منها أكبر مما ستستفيده في وجودها، وإن ما ستخسره في ظلها أكبر مما ستخسره من انتهائها. وتنتهي الورقة إلى تقديم ثلاث مقترحات لحل هذه الأزمة:

المقترح الأول: تشكيل سلطة تشريعية تمثل القوى الثلاثة المتصارعة في ليبيا بواقع الثلث لكل منهم: ثلث المجلس التشريعي من أعضاء البرلمان، والثلث الثاني من أعضاء المجلس الأعلى للدولة، والثلث الثالث من أعضاء مؤتمر الشعب العام في آخر تشكيلته، ليتولى هذا المجلس اختيار سلطة تنفيذية انتقالية تتولى الأشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعلى نزع أسلحة المليشيات، واستعادة مؤسسات الدولة الأمنية وفي مقدمتها الجيش والشرطة، وتوحيد المؤسسات الاقتصادية والمالية.

المقترح الثاني: أن يتولى رئيس المحكمة العليا السلطة الانتقالية، تساعده حكومة مؤقتة من اختياره، تتولى الأشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعلى نزع أسلحة المليشيات، واستعادة مؤسسات الدولة الأمنية وفي مقدمتها الجيش والشرطة، وتوحيد المؤسسات الاقتصادية والمالية.

المقترح الثالث: إعادة السلطة التشريعية إلى المؤتمرات الشعبية ومؤتمر الشعب العام في آخر تشكيلة له، وإعادة السلطة التنفيذية إلى آخر لجنة شعبية عامة منبثقة عن مؤتمر الشعب العام، واعتبار تلك السلطات سلطات انتقالية، تشرف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وعلى نزع أسلحة المليشيات، واستعادة مؤسسات الدولة الأمنية، وفي مقدمتها الجيش والشرطة، وتوحيد المؤسسات الاقتصادية والمالية. ذلك أن هذه السلطة الانتقالية ستكون جادة في استرداد هيبة الدولة، وتقوية مؤسساتها الأمنية والعسكرية، ومنع انتشار السلاح خارج سلطة الدولة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :