الأسطورة والتراث في شعر نجوى الدوزي

الأسطورة والتراث في شعر نجوى الدوزي

  • أ :: عمر عبد الدايم

قراءة سريعة في مجموعة “لا قلب لي”

الشاعر :: عمر عبد الدايم

تزخر مجموعة “لا قلب لي” التي تحوي ثلاثين قصيدة للشاعرة التونسية نجوى الدوزي خلف الله، برموزٍ اسطورية متعددة تمثل مختلف حقب التاريخ وامتدادات الجغرافيا، فنجد فيها الأسطورة البابلية واليونانية والرومانية .. ويتضح ذلك جلياً من خلال توارد اسماء الالهة القديمة التي عبدتها جماعاتٌ بشرية في أصقاع وأزمنة مختلفة .. فتتردد في قصائد المجموعة أسماء مثل ؛ بجماليون ، ابوللو ، عشتار ،فينوس وغيرها.

فهي فراشة قلب الحبيب التي تكتب بجناحيها حين ترفرف:
أتغار؟!!
يا لذبولها
و أنا فراشة قلبهِ
وهو السّنا والنّارُ .. (ص9).

وهي “ضاربة الودع” :
ضربتُ بكفّ قلبي ودعَ غيبٍ
رأيتّ زجاج قنديلي شظايا (ص85).

وهي “نبيّة العشق المصلوبة” حين تصرخ:
عميق يقيني
أنا من صُلِبتُ نبية عشقٍ
بأهداب طرفِكْ

سيُرفَعُ قلبي مسيحَ خلودٍ
ليحيا ملاكاً
بجنّات عطفِكْ (ص90).

وهي “بتول الشِّعر الطهور” التي تهمس:
وإنّي بتولُ الشعر طهرٌ صحيفتي
يواري ذنوب العشقِ بالدمعِ يرويها (ص92)

وهي “عود زرياب وصناجته” الصدّاحة:
فبلمستين على معازف أضلعي
زريابُ يصدحُ في انثيالِ نشيدي (ص96)

وهي “عشتار” التي أخصبها العشق:
عشتارُ قدّت خِصبَها
من فيض نسغِك في دمي
أورقتُ منك
فأورِقِ .. (ص101)
**

وقد تجمع الشاعرة في قصيدةٍ واحدة عدداً كبيراً من التراث القصصي لعصورٍ و شعوبٍ مختلفة  كما هو الحال في قصيدة “ما بال عشقك” التي جاءت فيها على حروب طروادة والمجدلية واليسوع وحتى ماء زمزم والصفا والمروة لتوظف كل هذه الرموز الدينية والأسطورية بما يخدم فكرة القصيدة.
في هذه القصيدة تفتح الشاعرة قلاعها المنيعة لجيوش العشق وتدعو الحبيب لأن يزمّها لحياضه ثم تقيم قدّاس الغرام متعبدة لتنتصر في نهاية القصيدة لزليخة في داخلها :
طوعاً فتحتُ قلاع كلّ موانعي
طروادتي تسعى إليك ممَهَّدَة
..
فإليّ تُب وإلى حياضك زُمَّني
و صفا ومروة دع فهاجر مجهَدَهْ

زمزم مياه الشوق كيف روافدي
بخرير نبعي لم تبح متودِّدهْ
..
فالمجدلية كحّلت بقيامةٍ
لهوى اليسوع بقدسه متعبدهْ

وأقمت قداس الغرام ترهّباً
عرّاب عشقي في ضياك معمَّدَة

يا يوسف الأوصاف عشقك جائرٌ
إنّي زليخة في الهوى متفرّدة

سأقدّ همسات الجنون قصيدةً
كانت على شفتي غفت مترددة
..
قل “هيتَ لي” وامنح فؤادي وردةً
عرّج بقلبي فالسبيل معبّدة

ويظل للتراث العربي حضورٌمميزٌ عند الشاعرة التي أقدِّرُ أنها نهلت من معينه حد الارتواء.
ففي بداية قصيدتها (سنابك الحق) على سبيل المثال لا الحصر تستحضر الشاعرة كلاً من زرقاء اليمامة والخنساء فتقول:
زرقا يمامتنا تشكو من العطبِ
هل كحّلت بسواد الليل من حُجُبِ

تغيم مشكاةُ نورِ في مدارجنا
خنساءُ قُدّي حروف الدمعِ وانتحبي( ص51)

تنطلق الشاعرة في هذه القصيدة من البكاء على أطلال مجدٍ تليد غابرٍ لأمةٍ كانت تقتطف نجوم السماء من عليائها فإذا بها اليوم تُعَدّ بين بقية الأمم في الحضيض.غير أن ايمان الشاعرة بأن هذه الأمة ستنهض من الرماد ذات صباح كطائر الفينيق يظل هو الأمل الذي تختتم به قصيدتها فتقول:
تغفو جياد كخيط النور في أفق
لا يخدعنك غياب الشمس إن تغبِ

تلك النجوم نواصي الغيب في يدها
غداً سترجم لصّ الطين بالشُّهُبِ

إنا نمدّ خطانا قل لحلكتهم
فكيف ترضى جياد النور بالغلب

غرٌّ محجلة حقٌّ سنابكها
غداً ستطعم نار الشمس باللهبِ (ص52).

أما النصوص الدينية والقصص القرآني على وجه الخصوص فلا تكاد تخلو قصيدة لنجوى الدوزي في هذه المجموعة من تضمين أو اشارة لقصة منها ، فمن قصص الأنبياء (نوح ، و موسى وعيسى ) إلى ذي القرنين ويأجوج وماجوج إلى حمالة الحطب ، نجد قصائد المجموعة تعج باقتباسات القصص القرآني واستحضارها له.
بل ربما وجدنا في عنوان القصيدة نفسه ما يشير لذلك كما في عنوان قصيدة “سأغرق فرعون” (ص43) ، وقصيدة “قد مسّها الضرُّ” (ص57).
ومن قصيدة “سنابك الحق” التي سبقت الإشارة اليها نورد الابيات التالية والتي تأتي متعاقبة حيث يتضح فيها استلهام الشاعرة للقصص القرآني وتوظيفه في النص ، تقول الشاعرةّ :
إن الرماد وريث النار ذا قدرٌ
كذا على عرش ذي القرنين قام صبي

يأجوج عادت ومأجوج الرّدى فتحت
صهبُ الشغاف وإنّ الردم من خشبِ

إنّ السدوم (تراود الثرى) شغفاً
ملحاً لأعمدةٍ خسفاً لمغتصِبِ

موسى جفانا فما ابيضّت لنا يدهُ
حتى عصاه أبت سعياً لمنقلَبِ

فينا بنى سامريّ الأفك كاد لنا
بترولنا خار إنّ العِجل من ذهبِ

هارون لم يمنع الأفاكِ من حذرٍ
ما اهتزّ فينا كليم الله من غضبِ

قل لا مساس لهم ايا ابن أمّ بغوا
لم يأبهوا قط للألواحِ والكُتُبِ

لن تستكين عصا موسى بأوردتي
بها أهشّ على حمالة الحطبِ (ص52).
**
وفي قصيدة “من أنا” تتناول عقدة لسان موسى وفصاحة هارون:
يا جمر موسى كم لقمت قصائدي
فتلعثمت وعقدتُ فيها ألسُنا

إن ما ابانت فادع هارون الحجا
سيشدّ ازرك إن غيابي أمعنا (ص83).
وفي قصيدة”أنت البعيد بجانبي” تأتي الشاعرة على قصة أصحاب الكهف :
ب”أنا أحبّ” أعدّ سبعَ الكهفِ
ثامنها جوابٌ في وصيدِ الأسئلة

رتّل نبوّةَ وحيها
عرّج بها
هل بعد سدرة نورها من منزلة؟(ص105)
**
على أنّ الشاعرة تبدو وكأنها تفرد لقصة زليخة مع النبي يوسف مجالاً رحباً في مجموعتها، ولعلّ في هذا إشارة لانتصارها لذاتها الأنثوية التي تعبّر عنها بهذه الرمزية كما في قصيدة ” كوني زليخة” حيث تقول:
راودتُها
إذ قلتُ: هيتَ
يكن جحيمُكَ بردا (ص 61).

والحقيقة أنّ المواضع التي تورد فيها الشاعرة شيئاً من قصة يوسف عليه السلام كثيرة جداً في مجموعة “لا قلب لي”، ولكن وعلى خلاف جملةالقصائد التي كانت الشاعرة تستلهم من زليخة الصراع الأزلي الأبدي بين كبرياء الانثى ومشاعرها ، نجدها في قصيدة “ابكي الربيع” أو “مرثية اللحى” تورِد قصة يوسف في سياق مختلف حيث يتطلب النصّ ذلك فتقول شاعرتنا:
للجبّ قلب قد هفا .. لما بكى
يعقوبكم ضمّ البريء .. ترفّقا
..
دمُ يوسف المسفوك راق لإخوةٍ
فتعجّب الذئبُ اللئيم و صفّقا..
..
يعقوبكم لبس الغياب شميمه
والفقد عرّش في عماه تسلّقا

لن يبصر المفقود بعد غيابه
حتى قميص النور كان ملّفقا

اخفوا صواعاً في خبايا رحلكم
كالوا يباباً والقفير تمزّقا..(ص76)

ما صدّقت بلقيس حكمة هدهدٍ
ما كشّفت ساقاًتخاتل مأزقا (ص78)

أخيراً.. فإن قراءة مجموعة “لا قلب لي” للشاعرة نجوى الدوزي خلف الله ستجعل القارىء يكتشف أنّ شاعرتنا بالفعل لا قلب لها ، فقد نبت مكان القلب فيها برعمُ ياسمين ، وترنمّت بدل النبض في أوردتها وشرايينها أغنياتٌ ، وتفتّح داخل اضلاعها اقحوانٌ ، وتلألأت جوهرةٌ ، ونَمَت سُنبُلة ، وتضوعت سوسنة ، وأشرقت ابتسامة .. كما نسجت الشاعرة كل ذلك في قصيدتها التي حملت عنوان المجموعة “لا قلب لي” (ص63).

فالشاعرة وإن كان كبرياؤها وأنفتها يجعلانها تقول في قصيدة (اسريت عنك)
إني هجرتك لن تكون بكوكبي
فالأرض أرضي والسماء سمائي
..
كفيك خذ ، مردودة أحلامها
فأصابعي قد قاطعت أخطائي (ص23)
فإننا نجدها تمنح الحب ،كل الحب ، باستسلام كامل حين تجد الحبيب الصادق .. ففي نهاية نفس القصيدة تقول:
لرفيق صدق جنتي بنعيمها
أهديك انت الجدب في صحرائي
أما في قصيدة (اسق ربى الازهار) فإنها تذهب لأكثر من ذلك حين يتمكن منها العشق لدرجة الامتلاك ، تقول نجوى:
أقاد إلى أعتاب ملكك صاغراً
أيا صانعاً من سطوة الرمش أطواقي

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :