د. علاوة كوسة / الجزء الأول
في مقدمة اول معجم في تاريخ الادب العربي حول الكتابات والنقوش الشعرية العربية على شواهد القبور والاضرحة
“أَمَا آنَ لنا أنْ نستعيدَ تراثَنا الشعريَّ (الشاهديَّ ) القديمَ والحديثَ، وقد ظلّ حينا من الدهر إرثا منسيّا مهجورا ؟ و حتّامَ يبقى هذا الكنزُ الشعريُّ حبيسا في بطون الدواوين ، و رفوفِ المصنّفات التاريخية والأثرية والدينية ، و رهينَ شواهدِ القبور – نقشا عاريا – كأنّه لم يكن شيئا مذكورا”؟
إنه الهاجسُ الرهيبُ الرغيبُ الذي لازمني طويلا ؛ وظلَلتُ أقلّبُ وجهتي النقدية في آفاق البحث العلمي ، لعلني أجيبُ عن سؤال جدير باستثارة أدواتنا النقدية ، وبتوجيهِ جهودنا البحثيةِ وجهةً يرضاها هذا الفنُّ الشعريُّ ، فآليت على نفسي الإجابةَ ، بتأليفِ أوّلِ كتابٍ نقديٍّ خالصٍ لوجه” الكتاباتِ والنقوشِ الشّعريةِ العربيةِ على شواهدِ القبور والأضرحة “.
هل أتاك حديثُ “الشِّعرِ الشاهديِّ “( tombstones poetry)، الذي اتّخذ من شواهد القبور والأضرحة بيوتا لأبياته ، ونُقِش في ذاكرة” الشعرية العربية” شاهدا على شاهد، وظلَّ جسرا شعريا بين الأموات و بين الأحياء ، فأحيا الأرواحَ الشاعرةَ و والأجسادَ الشاغرةَ وهي رميم ؟ ألا إنّ كتابةَ الشّعرِ ونقشَه على شواهد القبور والأضرحة عادةٌ عربيةٌ قديمةٌ ، مازال يعتدّ بها الشعراءُ والأمواتُ- على فنٍّ سواء- إلى يومنا هذا، أفلا أعددنا لهذا الموضوع الطريف والسُّنّةِ الشعريةِ المهجورةِ قراءةً نقدية تتكئ على “ديوان شاهديّ” وثير، اشتغلتُ على جمعه سنينَ عددا ، وها أنا أضعه في ميزان النقد الثقافي ، لأختصّه ببحث موسوم ب: ( الأنساق المقنَّعة في الشِّعرِ الشّاهديِّ العربي – قراءةٌ في الكتاباتِ والنقوشِ الشعريةِ العربيةِ على شواهد القبور والأضرحة)، وأتبعه بمعجم للكتابات والنقوش الشعرية قديمها وحديثها.
يُعَدّ “الشعرُ الشاهديُّ” إرثا أدبيا، ثقافيا وتراثيا ثمينا، وسِجلّا تاريخيا صِدّيقا، لم تمتدّ إليه يدُ التحريف ولسانُ اللحنِ ، وحبرُ التصحيفِ بعدُ ، لذا مددتُ إليه يدَ الجمْع ولسانَ النقد ، وقد هيّأتُ له متكأ نقديا يليق بجلال هذه الغنيمة الشعرية المستعادة ، فكان “النقدُ الثقافيُّ ” إطارا إجرائيا ومنظومةً قرائيةً ، وندّا في مقام الشّعرية الشاهديةِ المستهدفةِ في أنساقها المضمرةِ الخفيّةِ و المقنَّعةِ المخاتلة ، وانفردنا بهذا الفتح النقديِّ الشِّعريِّ للخطاب الشّاهدي ، الذي ظلت تتنازعه مباحثُ شتّى في تخصصات غير أدبية و لا نقدية ، امتصتْ ممنوحاتِه التوثيقيةَ والتاريخيةَ والأثريةَ والدينية ، وظلتْ قيمتُه الشعريةُ تنادي: أيها النقاد، هل من مُنَاد ؟
فرددتُ إذْ ذاك:
أما آن لنا آن نستعيد تراثَنا الشّعريَّ الشاهديَّ المهجَّرَ المنسي، و أنْ نتّخذ به إلى ساحِ النقد سبيلا ؟ و متى سنكشف عن خصوصيات هذا الفنّ الشعري ، وعن بواعث كتابته ونقشِه على الشواهد القبرية ، ومَن هم أعلامُ الشّعرِ الشّاهديّ العربيِّ من القدامى والمحدثين ؟
مفاتيــــــــــــــــــحُ إشكاليـــــــــــــــــــــــــــةّ:
أمّا و قد أحلتُ شعرَنا الشاهديَّ العربيَّ على محكمة النقد الثقافي ، فقد كِدتُ له كيدا نسقيا جميلا ، وأشهرتُ في وجهه قراءةً في أنساقه المضمرةِ الخفية ، المتخِذةِ أقنعةً محكمةً ، تواطأتْ فتستّرتْ عن اشتغالها القبيحِ مجمَّلا ، متوقفا عند نسقين بارزين في المتون الشاهدية ، وهما :نسقُ “الخلود” ونسقُ “الفحولة”، متسائلا ككلّ خلوة نسقيةٍ مقنَّعة:
– لمَ ظلّ الخلودُ رغبَتنا التي نعيشها موقنين أننا لن ندركها، و شُغْلَنا الإنسانيَّ الشاغل منذ البدايات البشرية الأولى، مطعّما بمذاق دينيّ وبوهمِ أسطوري، تتبناه تجاربنُا الشعريةُ وتدافع عنه – ما خَلُدَ الشعر-؟ و كيف تسلّل هذا النسقُ(الخلود) مقنَّعا، وقد اندسَّ خلالَ النصوص وعلى مشارفها وعتباتِها متواريا خفيا ؟ وكيف استحضر الشعراءُ نصوصَهم الأسطوريةَ الغائبةَ ، وامتصوا عشبةَ الخلود فيها، ليمنحوها أنفسَهم وموتاهم مدونةً على شواهد القبور شاهدةً لهم وعليهم ؟
وقفتُ واستوقفتُ على عتبات المدّ “الفحوليّ” المتسللِ إلينا عبْــرَ مصنّفات النقد ومتونِ الأدب العربي منذُ الشِّعر الأول، متسائلا:
– هل يمْكن أن يتوهّم الشاعرُ العربيُّ “الفحولةَ” وهو على مشارف القبور وشواهدِها ؟ أليست الكتابةُ على شواهد القبور والأضرحة تخليدا لهذه الفحولة ؟ أم إنها وسواسٌ شعريٌّ قهريّ يلازم الشعراءَ إلى شواهد القبور ؟ أليست “الفحولة” نسقا ثقافيا مُتَشَعْرِنا ، ومُدخلا نسقيا يكشف ادعاءاتِنا الحداثةَ بمسٍّ رجعيّ رهيب ، وإنْ اتَّخذَ النسقُ أقنعةً مانعةً شتى ؟ كيف تمثلت الشواهدُ الشعريةُ الرجاليةُ الأنوثةَ ؟ أم إنّ “الفحولةَ ” تسربت إليها أنساقا مضمرة ً واحتكرتْها وهيمنتْ عليها بأقنعة مختلفة ، كانت ممراتٍ آمنةً للإرث الفحوليّ و العقَدِ الذكورية ؟
لمْ أتردّد لحظةً في اختياري للنقد الثقافي مجالا مثيرا مستفزا منتِجا مسائِلا للمنتَج الشعريّ الشاهديّ القديم والحديث ؛ وقد تحسّستُ ممكناتِ هذا المشروعِ النقدي الثقافي الغربيّ في نسخته العربية المزيدةِ والمطوّعةِ ، مستشْكِلا:
– هل نمتلك في الثقافة العربية من القدرات ما يمكّننا من تطويع هذا المشروع، لنستنطقَ به العديد من قضايا الثقافة العربية ، فيحيي- حينها- كثيرا ممّا أصابته بعضُ المناهج السياقية و النسقية بتنميط وجمودٍ وتحييد ، وتفكيكٍ مستبِد ؟
– ما حدودُ “التداخل و التخارجِ” الإجرائيِّ بين النقد الثقافي وبين النقدِ الأدبي ؟ و ما الداعي إلى تلك الدعوة النقدية (المفاجئة ) إلى الإعلاء من شأن النقد الثقافي، متبوعةً بإعلان ” موت النقد الأدبي” ؟ وكيف يمكننا إعادةُ قراءة ” الرؤية الغذامية” لهذا الإعلان ، وما أحدثه من “فتنة نقدية كبرى ” قد لا تنطفئ قبل أنْ تخلق اختلافا نقديا وإنتاجا معرفيا جذريا ؛ يناقش هذا الحكمَ النقديَّ القاسي فيستأنفه باحتواء الوضع النقدي الثقافي المعاصر، واستجلاءِ احتكاكاته وتداخلاته بالنقد الأدبي ؛ إنْ تصديقا للمقولة” الغذامية” بموت النقد الأدبي أو تكذيبا لها، أو إعادةَ قراءتها في سياقاتها ؟ وهل كان ديوانُ العرب قناعا تمرّ عبره أنساقٌ خفية حمّالةُ قبحنا ، بتواطؤ نقديّ أدبي مقيت ؟ أليس هناك أنساق مضمرة تسرّبت من الشِّعر وبالشِّعر مقنّعة بالجمالي والبلاغي ولكنها تؤسّس لسلوك إنسانيّ حضاري راق ؟
– أما آنَ لنا أن ننتقل من البحث في النسق “مضمَرا” ، إلى البحث في النسق” مقنَّعا” ،وفي آليات التبادل الدلالي العميق المشفر الزئبقي ، بين “النسق” بكل ممكناته في التخفي ، وبين” القناع” أداةً يكيد بها النسقُ كيدا، ويحتال على قرّائه مخاتلا في خطاباته؟
– أليس ” القناعُ ” لَبُوسَ ” النسق”، والمتسترَ على اشتغاله” القبيحِ/ القبحيِّ ” الدائم ؟ فهل يمكن تصوّرُ الأنساق عاريةً من دون أقنعة ؟ أليست الأنساقُ – في هذا العراء – تُفقِدنا شهوةَ الاستمتاع بجمال” دسائسها” ، و تحرمنا فرصةَ فكّ مغاليقها الأمّارةِ بالتأويل و الأشّارةِ بالدلالات العميقة في طبقات النصوص؟ أليس النسقُ ” موحٍّدا” في قَناعته بوحدانية “القناع” ؟ أمْ إنه يتخذ من الأقنعة مثنى وثلاثَ ورباع ، ليترك المشتغلين على فتنة الأنساق الخفية والراسخين في تأويلها في بحث مستديم متفرّع في مفترق الأقنعة ؟