“الإصلاح والثقافة: التأثير القوي للفردانية وتأثير الإصلاح على المسيحية والفنّ”.

“الإصلاح والثقافة: التأثير القوي للفردانية وتأثير الإصلاح على المسيحية والفنّ”.

  • ترجمة عن الألمانية: رضوان ضاوي

الرباط/المغرب

 مجلة تسايتتسايشن(zeitzeichen):  سيدي البروفيسور لاوستر، ما هو التأثير الأقوى للإصلاح؟                                                                                                                               

جيورج لاوستر: أعتقد أن التأثير الأقوى للإصلاح هو التأثير الديني. كانت رسالة الإصلاح إلى الناس تبليغ الوعي بأنّ الفرد يمكن له أن يملك تلك العلاقة المباشرة مع الله وأن الكنيسة ليست سوى وسيلة لضمان استمرارية تلك العلاقة معه. وعلى هذا النحو يكون الإصلاح قد تسبب في ثورة دينية في تاريخ المسيحية.

كون علاقة الفرد مباشرة مع الله والكنيسة ليست مهمة جداً، هذا يؤثر أيضا على المجتمع، أليس كذلك؟

أولاً، هناك ملاحظة صغيرة: مسألة كون الكنيسة ليست مهمّة جداً غير صحيحة على الأقل بالنسبة لمارتن لوثر، فقد كانت للكنيسة أهمية كبيرة بالنسبة له. هو قام فقط بترتيب علاقة الله المباشرة من أجل التبليغ الكنسي للإيمان. بطبيعة الحال، كان للثورة الدينية التي أحدثها الإصلاح تأثير طويل المدى على المجتمع أيضاً. لأن رؤية لوثر الإصلاحية تعني تقديراً مذهلاً للفردانية. الفرد، إذا جاز التعبير، هو المكان الذي يتجلى فيه الوجود الإلهي. وهذا يعني، في المصطلحات الحديثة، أنّ الفرد لديه حقوق وواجبات، وكذلك مسؤولية خلق الحياة.

إلى أي مدى طبع هذا الأمر المجتمع في ألمانيا؟ يفكر المرء في فضائل مثل الصدق والثقة والالتزام بالمواعيد والدقّة والاستقامة.

هذا سؤال صعب. هذا بالتأكيد ما يسمى بالفضائل الألمانية الثانوية، وهي لا تعزى مباشرة إلى الإصلاح. هناك عدد من التطورات الأخرى التي حدثت. لكن، وبشكل عام، الإصلاح هو الشرارة الأولى لهذه التطورات. ومعه تبدأ عملية يكون استكمالها الفعلي في ألمانيا؛ هي عصر التنوير. هنا يتم تحويل العديد من الأمور التي جاءت مع مارتن لوثر وتتم عملية إعادة تشكيلها في مجال الدين.

لكن عصر التنوير ذهب أبعد من لوثر.  

نعم، إذا جعلت الفرد قويًّا، فعليك أن تجعل عقله قويًّا أيضًا، لقد ذهب التنوير أبعد من لوثير. وهذا ينطبق أيضاً على عرض التسامح الديني.

مع الفضائل الثانوية المذكورة، هناك فرق بين عقلية البلدان البروتستانتية والكاثوليكية

النظرية الكلاسيكية لماكس فيبر تربط نشوء الرأسمالية بمذاهب معينة من البروتستانتية وممارسة حياة المطابقة. على أي حال، نشأ المصرف في إيطاليا في القرن الخامس عشر، أي في منطقة كاثوليكية. ثم وُجد الهولنديون المجتهدون في أنتويرب الكاثوليكية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أعتبر أن كون البروتستانتية وضعت الاجتهاد عند العمل والإدارة في المقدّمة هو ادعاء إشكالي. في رأيي، يلعب التناقض بين الشمال والجنوب دورًا في العقليات المختلفة في أوروبا وليس بين البروتستانت والكاثوليك.

مرة أخرى إلى أي مدى تلعب النقوش المذهبية دوراً في جعل العقليات المختلفة بين الشمال والجنوب مرئية، مرة أخرى في أزمة اليورو؟

في سيرتي الذاتية، من الصعب للغاية بالنسبة لي تحديد التأثيرات التي جعلتني ما أنا عليه اليوم. الأمر الأكثر صعوبة هو تحديد التأثيرات التي سببت وصاغت عقليات معينة للشعوب. من المؤكد أن الإصلاح له نصيب فيه، ولكن ليس لوحده.

  لقد ساوى مارتن لوثر المهنة العلمانية بالروحانية، ورأى أيضاً عمل العلمانية كرسالة وبالتالي قيمة كبيرة. هذه الفكرة الثورية أثرت أيضا على الحياة اليومية وعلى تشكيل المجتمعات.

نعم، هذه فكرة ثورية. إن أخلاقيات المهنة اللوثرية هي أن الفئة الدينية للمهنة لم تعد مرتبطة فقط بعمل فكري، بل بالمكانة الذي يحتلّها الإنسان في العالم. حيث يتم وضعه في منصبه، مهنته، ويجب عليه تحمل مسؤوليته أمام الله. وهذا في الواقع أحد الإنجازات العظيمة للإصلاح. ولكن بعد ذلك- في التطبيق المنطقي لهذه الرسالة – على المرء أن يثبت أنه لا يوجد شيء مماثل في الجانب الكاثوليكي. وهذا صعب. على أية حال، قد يكون هناك أشخاص كاثوليكيون عاديون ينظرون إلى أعمالهم بوصفها مهنة ويقومون بعملهم باعتباره مسؤولية تجاه الله.

 كيف طبعت الإصلاح وتبعات البروتستانتية مشاعر الناس؟

من خلال إعادة تقييم الفرد، مهّد الإصلاح الطريق لملاحظة أكبر للذات. في التقوية(Pietismus) ، على سبيل المثال، أدى هذا الأمر إلى الاستيعاب الداخلي، وإلى التديّن الذي يعود إلى التجربة الداخلية. في رأيي، لم يُفرج الإصلاح عن أيّة مشاعر دينية خاصّة، لكنه أطّر باطراد وُجهة نظر على التجربة الداخلية ذات الأهمية الكبرى. وهذا هو الأمر الحاسم.

وينعكس ذلك أيضاً في الأدب، وقد شجّع، على سبيل المثال، السيرة الذاتية.

هذا هو الحال. إن الملاحظة الذاتية، والاهتمام المتزايد بالداخل، كان لهما في الواقع تأثير كبير على الأدب.  ولكن حتى في هذه المرحلة، عليك أن تحذر من اللوحة السوداء والبيضاء. أثار الإصلاح أمراً، لكن الكاثوليكية ردّت. وهكذا، ففي القرن السادس عشر، أدرك اليسوعيون أهميّة الشعور مع الثقافة الباروكية، فنشروا ثقافة فكريةً دينية حسيّة جدًا وعاطفية جدًا، وكانت بمعنى أنها دفاعاً ضد البروتستانتية.

بالتأكيد يجب على المرء تجنب الرسم باللونين الأبيض والأسود في تحليل ووصف الواقع، وبالطبع فإن هوية المسيحيين، أفراداً وشعوباً، لم يتم تشكيلها من خلال المذهب فقط. ومع ذلك: هل توجد- حين نبحث عن كيفية تشكّل المشاعر-  فروقات بين الإصلاح والإصلاح المضاد، بين البروتيستانية والكاثوليكية؟

وصفت الكاثوليكية بثقافة العين والبروتستانتية بثقافة الأذن. رسّام مثل (بيتر بول روبنز) هو كاثوليكي خالص. في الكاثوليكية، تمثل الفنون البصرية الواقع الإلهي في العالم، بينما في البروتستانتية، يكون التركيز الأقوى إلى حد ما على الموضوع، والتجربة الداخلية، على سبيل المثال من خلال الموسيقى، التي لها أهمية كبيرة جداً.

بالإضافة إلى السماع، تلعب القراءة في البروتستانتية دوراً مهماً. نشأت جهراً العديد من دور النشر في البلدان البروتستانتية. وظهرت هناك الكثير من الصحف حتى يومنا هذا. يمكن للمرء فقط أن يقارن بلداً صغيراً مثل هولندا مع بلد كبير هو إيطاليا.

يمكنني قبول ما تقوله كدليل على ظواهر معينة، ولكن ليس كحكم مطلق. واحدة من أهم روايات الباروك، دون كيشوت، كتبها الإسباني الكاثوليكي ميغيل دي سرفانتس. هناك جدل غريب إلى حد ما في الدراسات الإنجليزية حول ما إذا كان وليام شكسبير كاثوليكياً، كما لو كانت طائفته مهمة جدّاً. هي قوالب بسيطة فقط لا تساعد هنا. لكن يمكن القول بالطبع أنّ موسيقى الكنيسة، ابتداءً من هاينريش شوتز إلى يوهان سيباستيان باخ وجورج فريدريك هاندل، طبعت مناطق بروتستانتية وأثّرت فيها.

  غالبا ما يرتبط الباروك، فيما يتعلق بالعمارة، بالكاثوليكية. ولكن هناك أيضًا كنائس باروكية بروتستانتية مثل ميشيل في هامبورغ وكنيسة النساء في دريسدن. هل اكتفى البروتستانت بمحاكاة الكاثوليكية فقط؟

إنها واحدة من أكثر الأسئلة إثارة في الفن والتاريخ الثقافي، حيث تجتمع العصور دائماً تحت نمط ثقافي معين. هنا يعني الأسلوب شكلاً من أشكال التعبير عن الحياة في العالم الداخلي، ثم يقوم بخلق أشكال معينة. أجد أنه من المثير للاهتمام أن البروتستانت، حتى في عصر اللاهوت المثير للجدل، لم يكونوا غرباء عن بناء كنيسة الباروك. بالتأكيد، فإن الباروتستانت الباروكي أبسط، وأقل مرحًا. ويلاحظ المرء هذا عندما يقارن المرء كنيسة النساء في درسدن مع كنيسة باروكية في روما. هناك بالفعل اختلافات واضحة للعيان.

من أين تأتي هذه الاختلافات؟

يعيش الباروك الروماني على انغلاق وحدة الفكرة، فكرة الحب الإلهي في أشكال أرضية. من ناحية أخرى، فإن الباروك البروتستانتية تدور حول مسألة تصوير انسجام من صنع الله كدليل على الوجود على الأرض. هذا يؤدي إلى أشكال أكثر هدوءاً وأكثر تواضعاً من الباروك الروماني الذي يريد تصوير الوجود الإلهي مباشرة.

لقد أوضحت الاختلافات الطائفية في الفنون البصرية مع مثال اثنين من الرسامين الهولنديين العظماء؛ روبنز ورامبرانت. 

في رأيي، أي طالب متعلم في منتصف الطريق، والذي يضعه المرء أمام صورة روبنز ورامبرانت، يمكنه التعرف على من هم البروتستانت أو الكاثوليك. يصور روبنز الدراما الإلهية في العالم، وفي المقابل، عندما يتعلق الأمر بالمسائل الدينية، يركّز رامبرانت فقط على الأشكال الكتابية. إنه شكل من أشكال الكتاب المقدس، لذا يحاول رامبرانت العمل على مواضيع الكتاب المقدس بنماذج هادئة للغاية.

 على عكس البروتستانت المصلحين، لم يرفض اللوثريون بشكل جوهري الصور في الكنائس. هل أثّروا على الفنون الجميلة بطريقة خاصة؟

التطورات الحاسمة في الفنون الجميلة، والتي يجب على المرء أن يعترف بها حاسداً  كان أم غير حاسد-وهو الأفضل-، اكتملت في البلدان الكاثوليكية. هذا واضح في إيطاليا، في التحولات من مايكل أنجلو إلى الباروك. هناك حدثت الابتكارات الكبيرة.

لكن رسّاماً رومانسيّاً مثل كاسبار ديفيد فريدريك (Caspar David Friedrich)  كان لوثريّاً قويّاً.

 لا يمكن فهم كاسبار ديفيد فريدريش دون ثقافة حساسيّة القرن الثامن عشر. هذا قد يكون له علاقة بتأثير حركة التقوية، وهذا بدوره متعلّق بالإصلاح. ولكن من السخف الادعاء بأن كاسبار ديفيد فريدريش قرأ لوثر والكتاب المقدّس ثم رسمهما. من الصعب جدّاً، كما قلنا من قبل، تحديد الآثار المتأخّرة طويلة المدى للإصلاح.

 يشدد المهتمون على أن الابتكار في مجال الفنون البصرية حدث بشكل رئيسي في إيطاليا، أي في منطقة يغلب عليها الطابع الكاثوليكي لماذا هناك بالضبط؟ 

لعلّ الذكرى الاحتفالية التي يتم الاحتفال بها في الفكر الكاثوليكي يمكن أن تدلنا على أنه ليست كل الإنجازات التي نتمتع بها والتي نحن ممتنون لها هي بسبب إحدى الطوائف أو غيرها. ففي القرن الخامس عشر، كانت إيطاليا، إلى جانب فرنسا، الدولة الرائدة في أوروبا، تكنولوجياً وثقافيّاً. لذلك كانت هناك موارد كبيرة للفن هناك. يمكن للمرء بالطبع أن يسأل عما يمكن أن يحدث إذا أصبحت إيطاليا بروتستانتية.

 أنا مقتنع بأن البلد قد شهد بعد ذلك ازدهار الفن التشكيلي البروتستانتي. حقيقة أن إيطاليا لديها صناعة فنيّة حقيقيّة لها علاقة بالحرفية الرائعة التي تم تطويرها وصيانتها هناك – والمنافسة الهائلة بين فلورنسا وروما. . لنلق مجرد نظرة على الفنانين الذين يعيشون هناك بين 1450 و1550. هذا لا علاقة له بالدين فقط، ولكن بالتقدّم الحضاري الضخم الذي سجلته إيطاليا في ذلك الوقت.

 دعنا نرجع عن القرن الخامس عشر / السادس عشر في إيطاليا إلى ألمانيا القرن الحادي والعشرين، إلى ذكرى الإصلاح في عام 2017. كيف ينبغي جعل المعاصرين يفهمون أن الأمر يتعلق بما حدث قبل 500 عام؟

من المؤكد أن تقديم لوثر كشخصية تاريخية صحيح، وذلك لجعله معروفًا. لكن يجب أن يكون واضحاً أن المُصْلِح هو شخصية في القرن السادس عشر وأننا لا نحصل على إجابات لأسئلة الحاضر من عنده. يجب أن يتضح كيف يمكن أن يستمر ما بدأ مع لوثر وما هي المهام التي تقوم بها الكنيسة في القرن الحادي والعشرين. من ناحية أخرى، لا يكفي الإشارة إلى شخصية واحدة فقط من القرن السادس عشر.

  ما هي واجبات كنيسة إنجيلية في القرن الواحد والعشرين؟

بادئ ذي بدء، كانت المسيحية ككل دوماً ديانة فكرية. وقد عزّز الإصلاح كثيراً من جوانب الفكر، ولا أقصد هنا ظاهرة الفكر النخبوي. كتب لوثر الكتاب التعليمي العظيم لأنه كان من المهم بالنسبة له أن يفهم الرجل العادي، والمرأة العادية وأن يتعاملا مع القضايا الدينية.

الأسئلة الدينية هي أسئلة الحياة الكبرى: من أين أتيت، إلى أين أذهب، ما هو معنى حياتي؟ والبروتستانتية، كشكل من أشكال الدين الفكري، يجب أن تسمح للناس بالإجابة على هذه الأسئلة لأنفسهم. عليها أن تساعدهم، على سبيل المثال من خلال عروض المحادثة، ليعيشوا في عالم معاصر وعالي التكنولوجيا وفي نفس الوقت يكونون قادرين على توقع الأجوبة والراحة في الدين. هذا جانب واحد. الجانب الآخر هو: كما ذُكِر أعلاه، جعلت البروتستانتية الفرد قويّا على الدوام. نحن بحاجة ماسّة للعمل على إيجاد شكل يعزز الفرد وفي نفس الوقت يجعل نموذج المجتمع اجتماعيا مثل ذلك الموجود في الكنيسة. نظامنا الكنسي الحالي هو مؤسسة المسيحية القديمة، التي تمنح الفرد حرية حركة محدودة للغاية.

تضم الكنائس البروتستانتية في ألمانيا حوالي 22 مليون عضو. لكن لدينا فقط حوالي 900،000 زيارة في المتوسط لصلاة الأحد. أولئك الذين لا يفعلون ذلك، أو نادراً ما يفعلون، يفهمون أنفسهم كمسيحيين. وهذا يثير السؤال: كيف يمكن محاورة هؤلاء لأعضاء الكنيسة في طريقة عيشهم للمسيحية؟ أن نحلم بأنهم سيعودون يوماً إلى صلاة الأحد في وفرة لا تفي بمسيحيتهم. نحن بحاجة إلى المزيد من الخيال حول ما يمكن أن تبدو عليه الممارسة الدينية.

 هل يمكنكم أن تعطوا أمثلة؟

نعم، مثل معروف وفي نفس الوقت ناجح هو السلوكات الإدارية، والخدمات في المعمودية، الإعترافات، ومراسم الزواج والجنازة. فقد وضعوا الفرد في المقدمة وجعلوه والجماعة الذين تجمعوا في تلك المناسبات على اتصال بالكنيسة ورسالتها. والفرد هو أيضًا محور الاهتمام عند زيارة القساوسة لأعضاء الكنيسة أو الاتصال بأشخاص آخرين في مناسبات أخرى. بالمناسبة، كثير من الناس يعيشون ويمارسون المُثُل المسيحية في كثير من الأحيان في حياتهم اليومية أكثر مما نعتقد. في بعض الأحيان يفعلون ذلك دون ذكر للمسيحية. ثم هناك عبارة من إنجيل مرقس تقول: من ليس ضدّنا فهو لنا.

*”الإصلاح والثقافة: التأثير القوي للفردانية”، حوار مع البروفيسور في علم الأديان بجامعة ميونيخ الأستاذ يورج لاوستر حول “تأثير الإصلاح على المسيحية والفنّ”، قام بالمقابلة راينهارد مافيك وييرغن فاندل في 22 فبراير 2018 في ميونيخ.

Jörg Lauster und Jürgen Wandel und Reinhard Mawik, “Reformation und Kultur Starke Aufwertung des Einzelnen”. Gespräch mit dem Münchner Theologieprofessor Jörg Lauster über die Auswirkung der Reformation auf das Christentum und die Kunst, zeitzeichen, 22/02/2018.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :