- د :: عبدالله كنشيل
“الإرتباط بالأرض، هو أساس الإنتماء للوطن، وترك ممّا سواه من إنتماءات قزمية. أثارت شجوني مجموعة صور أرسلها أحد الشباب، لأشجار الزيتون، والتي كانت لي معها ذكريات. أنتقلنا للعيش في مدينة بني وليد، وأنا طفل في السّنة الثالثة الإبتدائية، وغادرتها صبيّا بعدالسنة التاسعة من التعليم الأساسي، ولم أعُد لها إلّا للزّيارة في بعض المناسبات. في تلك الفترة القصيرة ارتبطت بالمدينة واهلها، والأهم بالأرض في وادي الزيتون المُبارك، حيث ساهمت ومنذ نعومة أظافري في غرس العشرات من أشجار الزيتون أسفل “كاف كنشيل”، حيث كان دوري سقايتها بإشراف والدتي رحمها الله، كل يومين ومنع الحيوانات من الإقتراب منها إلى أن “ضربت”، وهو تعبير محلي عن ضرب جذور الشجرة في الأرض ورسوخها، وبعدها ستتحمّل هذه الشجرة المُباركة عوامل الطبيعة كالسّيول والرّياح والعطش، وتعانق اغصانها وسيقانها عِنان السماء، وتزداد نضارة وظِلّاً وارفاً عام بعد عام. أشجار الزيتون مُعمّرة، ولا تُثمر إلا بعد بضع سنين. إذتبدأ شجرة الزيون في الإنتاج بعد 5 سنوات من غرسها، ولكن إنتاجها الفعلي يبدأ عند السنة السّابعة أو الثّامنة من عمرها. أشجار الزيتون بالنسبة لي ولغيري من أهل الوطن، شئي وجداني. فرعاية أشجار الزّيتون يحتاج للصّبر والتّعب والعرق والمال وقبل ذلك الأرض. ما ان تبدأ بالعناية بهذه الشجرة المُباركة، حتّى تحُس بشعور غريب. تحُس بالإرتباط العاطفي والحنين بها وبالارض لايوصف. مشاعر وطريقة الإعتناء بشجرة الزيتون، تُشبه تماما مشاعر الإنسان عند ولادة وتربية الأطفال، وكذلك الإرتباط بالزّيتونة ومحبتها ومحبّة الأرض التي هي عليها، تصبح كالإرتباط بأولئك الأطفال ومحبتهم. هذه المشاعر إتّجاه شجرة الزّيتون والأرض، ومن تمّ الوطن، يثوارتها الناس جيلا بعد جيل، ومن الأجداد للأباء والأحفاد. أشجار الزّيتون التي نمتلكها يرجع بعضها للقرن الثّاني عشر الميلادي أو قبل ذلك، ولا تزال الأبار التي كانت تُسقى منها موجودة وشاهدٌ على تلك الفترة وتحمل أسماء الأجداد الذين حفروها وكذلك بصماتهم. من يغرس شجرة الزيتون ويعتني بها، أو يرثها عن أجداده، يصبح ارتباطه بالأرض تحصيل حاصل، و الإنتماء للوطن، يطغى على كل الإنتماءات الأخرى، من قبلية ومذهبية و حتى اقتصادية، ولذلك لا غرابة في ان سقي الأجداد والأحفاد تلك التربية بالدماء، ودافعوا عنها في كل الأجيال ولازالوا يدافعون عن ذلك الوطن(ليبيا) بالأجساد ويفدوه بالأرواح. من الصّعب أن يشعر بهذا الإنتماء الوطني الغريزي، ويفدي هذا الوطن من لم يغرس شجرة زيتون او يرث نخلة
واحدة في أي بُقعة من تُراب الوطن، ليبيا. قد يكتنز البعض المليارات والقناطير المُقنطرة من الذّهب والفضّة، عن طريق بيع السلع او المُضاربة في الاسواق او بالغش والاختلاس من المصارف المركزية أو من النّاس، أو عن طريق وظيفة ما في شركة أو وزارة أو سفارة. قد يكون هذا الشّخص غنيا وكذلك قد يكون مواطنًا صالحاً، ولكن إنتماءه الفعلي لا يكون للطّين والأرض والوطن، بل للوظيفة والصّفقة والأسوق أو للقبيلة أو المذهب او العرقية، فهي حصونه، ولقمة عيشه. الإنتماء للوطن والوطنيّة، هو إرتباط “زيتوني” ونخلاوي، تتمثّل فيه كل المشاعر الإنسانية، وبإختصار فهو “العَرَقُ” المُتصبّب على الجبين والعواطف الجيّاشة في الصّدر ومحبّة النّاس كُل النّاس، والعقل المُبدع، كُلّها مجتمعة في ذلك الإنسان، وضاربة جذورها في أعماق تلك الأرض، تصنع الهويّة الأزلية، والتي لن تمحوها شطحات الحاسدين ولن تهدمها معاول الحاقدين.