البحث عن فتاة مفقودة كشف مكانه “أبو يحي” .. يخرج من قبره بعد 7 ساعات ليحضن طفلته الوحيدة!

البحث عن فتاة مفقودة كشف مكانه “أبو يحي” .. يخرج من قبره بعد 7 ساعات ليحضن طفلته الوحيدة!

  • كتب/ رامي رمانة

” على بُعد أمتار معدودة، سمعتُصوت طفلتي” دانا” ذات التسعة أعوام، وطفلي “زين” ذو العامين والنصف” يستغيثانيبصوت متقطع خافت مصحوب بأنات.. لم أستطع حينها، فعل أي شيء لهما ولنفسي، كُنت طريح الأرض مدرجاً بالدماء،عاجزاً عن الحركة قيد أُنملة..كانت أجسادهما النحيلة تُصارع ما سقط عليها من ركام العمارة السكنيةالمدمرة.. أرواحهما لم تحتمل شدة الألمفغادرتكنسيم الربيع إلى عالمها الآخر.. ومنذ ذلك الحين واستغاثتهما تلاحقاني كـ “شبح” في ليلي ونهاريوحلي وترحالي.

فجر السادس عشر من مايو/ أيار المنصرم، كانت أسرة المواطن رياض اشكنتنا(42) عاماَ من سكان مدينة غزة الفلسطينية، على موعد مع جريمة إسرائيلية هزت أركان العالم. فبدون سابق انذار، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية عمارة سكنية تعود لعائلة أبو العوف في شارع الوحدة بغزة بعدة قذائف صاروخية، فدمرت العمارة على قاطنيها في ظلمة الليل الحالك، وسوت طوابقها في الأرض وقصفت عمارة مجاورة لعائلة الكولك، وقتلت في المجزرة المروعة (42) شخصاً، وأصابت العشرات.

“كانت ليلة شديدة جداً، لم نرى مثلها من قبل، حامية الوطيسيمكن وصفها هكذا -يقول المواطن اشكنتنا الملقب بأبي يحي-، المروحيات العسكرية الإسرائيلية لم تبرح سماء مدينة غزة، والبوارج الحربية أحاطت بالبحر على طول امتداده.. والمدفعية انتشرتبمحاذاة الحدود الفاصلة بين إسرائيل وغزة.. الانفجارات الضخمة كانت تهز كل بقعة جغرافية في المدينةالساحلية… شعرنا أن الموت يتربص بنا من كل صوب.

يقول أبو يحي” القصف الإسرائيلي المتتالي على مدينة غزة عطل عمل الخطوط الناقلة للتيار الكهربائي وشبكة الإنترنت، فانتلقت إلى المذياع لمتابعة تغطيات الإذاعات المحلية للأحداث الدائرة. ” كانت الساعة تقترب من الدخول إلى الواحدة فجراًوالنعاس غلب أطفالي، – يضيف أبو يحي- نقلتهم من الصالون إلى غرفتهم، وبقي طفلي العنقود “زين” يلهوعلى الأريكة بجانبي. بعد برهة من الوقت،استأذنت أبو يحي،زوجتهعبير ارحيم(29) عاماًلكي تنام بجوار أطفالها الخائفين من شدة القصف، وطلبت منه أن ينقل الطفل”زين” إلى حضنها حين ينام. يسترسل الحديث”غطي النعاس جفني طفلي المشاكس، قبلته وحملته بين ذراعيً،وذهبت به إلى أمه- لم تكن نائمةحينها- كانت تهاتف عائلتها، تطمئن عليهم، أخبرتني أن شقيقها عرض عليها أن يصحبها صبيحة اليوم التالي وأطفالها إلى منزله الذي يوجد في منطقة أكثر هدوءاً، وأنها فضلت البقاء في شقتها.

لم يمضى على خروج أبو يحي من غرفة أطفاله ربع ساعة حتى باغته صوت انفجار ضخم مصحوباً بوهج أحمر يدخل نوافذ شقتهمن كل حدب وصوب، فحاول مسرعاً العودة لأطفاله ليوفر لهم حماية ولزوجته إلا أن محاولاته باءت بالفشل.

يصف ما حدث قائلاً:”باغتني عمودخرسانيوسقط على ذراعي، ثم تبعه عمود آخر وسقط علىساقي، بقيت طريح الأرض مدرجاً بالدماء من كل أنحاء جسدي، أخذت أنادي على أطفالي وزوجتي لم يرد على أحد.. وأعمدة الشقة تتهاوي واحدة تلو الأخرى، ثم انخسفت الأرض بي نحو الأسفل انعزلت عن الخارجوكأنني داخل قبر، لم أعرف ما حل بأسرتي. كان المشهد الذي عاشه أبو يحي مؤلم جداً، لم يستطع من شدة الظلام رؤية أصبعه، بالكاد كان يستنشق الهواء المغبر، انهارت قواه، وخفت صوته، حتى شعر أن أجله قد أقترب، وتمنى من اللهأن يتقبله من الشهداء، وأثناء ترديده الشهادة، سمع أصواتأطفال تتسلل عبر الركام طالبة مساعدته، كانت الأصواتلاثنين من أطفاله.

يقول أبو يحي في هذا الصدد:”تخيل أن أطفالك يصارعون الموت ويطلبون مساعدتك وأنت مكبل اليدين والقدمين، هذا ما حدث معي بالضبط، سمعت طفلتي( دانا) البكر وأنا تحت الركام، تنادي علي” بابا “، كررتها ثلاث مرات ثم سكتت، وتبعها بعد ذلك زين نادى اسمي مرة أو مرتين ولم يكمل ، كان صوته مخنوقا.. كأن شيء ثقيل جاسم على صدره. “أبو يحي” الذي يعمل في مجال الفندقة، كان يستأجر شقة في عمارة أبو العوف السكنية الدور الثالث، مع زوجته وأطفاله الخمسة دانا(9 سنوات)، سوزي(7 سنوات)، لانا( 6 سنوات)، يحي(5 سنوات)، وزين(2.5) سنوات. يبكي أبو يحي ويقول “سامحني يا طفلي زين.. صوتك الضعيف أضحى شبح يلاحقني ليل نهار، في حلي وترحالي..لقد خنت عهدي لك ولإخوتك في أن حميكم من أي مكروه وغدر الزمان … صدقني كنت عاجزاً.. هل تتذكر كم مرة حميتك من السقوط عن السلم وأنت تلاحق إخوتكوهم ذاهبون إلى مدراسهم؟!… كم مرة فرشت لك الأرض بالأغطية، ووضعت في طريقك الوسائد الاسفنجية حتى لا تخدش ساقيك الصغيرينوأنا أدربك على أولى خطواتك. سامحني بني.. لقد خنت العهد؟!”.

ظل أبو يحي رهين قبره(7 )ساعات متواصلة، لا يعلم عنه أحد، فيما تواصل طواقم الإسعاف في الأعلى نقل جثث الشهداء والاصابات التي تنتشلها من بين أنقاض العمارة السكنية، فيمايحاول طواقم الدفاع المدني والمتطوعون البحث عن مفقودين أحياء. ويتحدث عن لحظة إنقاذه من محنته بالقول ” سمعت صوت أحد الشبان ينادي على اسم فتاةمفقودة ، كان الصوت في بادئ الأمر بعيداً عني، وحين أخذ صوته يقترب أكثر وأكثر، أخذت أردد” يا الله .. يا الله” حتى سمعني، وعلى الفور أخبر طواقم الإنقاذ أن شخصاً يبدو مازال على قيد الحياة يطلب المساعدة.

يضيف أبو يحي”صنع فريق الإنقاذ فوهة صغيرةفي الركام، فتسلل إلىً النور، والهواء،وأخبروني وقتها أنهم سوف يساعدوني على الخروج، وطلبوا مني أن أحافظ على هدوئي، ومدوا إلىً جهاز التنفس الاصطناعي.. حين اكتملوا من توسيع الفوهة، أخرجوني من تحت الركام، ونقلني فريق طبي إلى المستشفى لتلقي العلاج”.

ويتابع:” وأنا في طريقي إلى المستشفى، سألت عن أسرتي فاخبروني أن جميعهم بخير وأنه تم نقلهم إلى عدة أقسام في المستشفى التي أنا ذاهب إليها بعد تعرضهم لإصابات طفيفة”. كثرة الحاح أبو يحي على أقاربه الذين لازموه المشفى بأن ينقلوه إلى الأقسام التي يتواجد بها أبناءه وزوجته، كشف ما يخبئونهعنه، فقد عرف أن جميع أفراد أسرته ارتقوا شهداء وهم تحت الركام، وأن جثثهم في ثلاجات الموتى و عليه أن يستعد لتشيعها إلى مثواها الأخير.حينها شعر أبو يحي أن الدنيا زادت من ظلمتها عليه واحكمت من سطوتها، وراح يبكي بحرقة شديدة، ويدعو الله أن يلحقه بهم، فهو لايريد أن يبقى وحيداً. “فجأة توقف أبو يحي عن البكاء، ودخل إلى قلبه السرور، حين أدخل أحد الممرضين طفلته سوزي،حية تُرزق، انتشلها طواقم الدفاع المدني بعد 10 ساعات من تحت الأنقاض، أخذ يقبلها ويعانقها وهو على سرير الشفاء، ويبكي ويحمد الله على كرمه، والطفلة تبادله البكاء لا تعرف ما حل بأسرتها”.

ويتساءل أبو يحي “لماذا لم يمهلني كابتن المروحية القتالية الإسرائيلية الوقت لأخرج أبنائي من العمارة قبل أن يدمرها، لقد حرمني من فلذة كبدي وشريكة حياتي، وقتل جيراني الذين تقاسمت معهم الفرح والكره، لقد ارتكب جريمة إنسانية، لن أغفر له ما دمت حياً على هذه الأرض، أساله كيف سيكون شعوره لو أن ما حدث لي حدث له.. تباً له ولمن أمره بذلك؟!

لقد كانت روح أبو يحي في لحظة فاصلة بين البقاء على الأرض أو مغادرتها إلى السماء حيث يقول :” وأنا تحت الركام انتابني شعور داخلي أن الله سوف يخرجني من قبري، فالهدوء سكن نفسي، شعرت أن الملائكة كانت تحفني من كل جانب رغم شد الألم، أطال الله مكوثي لأنه كان يدبر أمر خروجي”.

ويختم حديثه بالقول:”حين ودعت أبنائي لمثواهم الأخير، كانت وجوهم كقطع من القمر بل أجمل، قبلتهم جميعاً دون استثناء كما كنت أفعل ذلك وهم يلقون علي تحية الصباحواحد تلو الأخر، لكن ما أحزنني أنني لم اقبل طفلتي لانا، لقد أخفاها أهلي عني، سامحهم الله، قيل لي بعد دفنها أن رأسها كان مهشماً، لكن في اليوم التالي، عدت إلى المقبرة، وقبلت ترابها وتراب إخوتها وزوجتي. ” جمعت أبنائي في قبر واحد، كما كنت أجمعهم على سفرة طعام واحدة وفي غرفة نوم واحدة، ودفنت زوجتي في قبر وحدها، أسال الله أن يلحقني بها شهيداً “.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :