تحقيق : سلمى عداس.
البطالة في ليبيا لم تعد مجرد أزمة اقتصادية، بل تحولت إلى تهديد أمني واجتماعي يُلقي بظلاله على مستقبل الشباب الليبي.
في ظل انعدام الفرص، أصبح بعض الشباب عرضة للاستقطاب في شبكات الجريمة المنظمة، بينما يختار آخرون ركوب قوارب الهجرة غير الشرعية، باحثين عن مستقبل مجهول في أوروبا.
فهل تحولت البطالة إلى وقود يغذي الجريمة والهجرة غير النظامية ؟ وهل هناك حلول واقعية لإنقاذ الشباب الليبي من هذا المصير؟
أزمة البطالة في ليبيا: أرقام صادمة
وفقًا لتقارير منظمة العمل الدولية (ILO) والبنك الدولي، فإن معدل البطالة في ليبيا تجاوز 30%، بينما ترتفع النسبة بين فئة الشباب لتصل إلى أكثر من 45% في بعض المناطق، وهو معدل خطير ينذر بعواقب وخيمة.
وترجع أسباب تفاقم البطالة إلى عدة عوامل، منها انعدام الاستقرار السياسي، وتراجع الاستثمار المحلي والأجنبي، وانكماش القطاع العام الذي لم يعد قادرًا على استيعاب أعداد الخريجين، إضافة إلى ضعف برامج التأهيل المهني وغياب سياسات تشغيلية واضحة.
البطالة.. بوابة مفتوحة للجريمة.
مع انسداد آفاق العمل، أصبح الشباب أكثر عرضة للاستقطاب من قبل شبكات الجريمة، التي وجدت في الأزمة فرصة لتجنيد عناصر جديدة.
وتتمثل أبرز الجرائم التي ينخرط فيها العاطلون عن العمل في تهريب الوقود والأسلحة عبر الحدود، والاتجار بالبشر والمخدرات، والانضمام إلى الميليشيات المسلحة التي تقدم رواتب مغرية مقارنة بالفرص المتاحة في السوق، فضلًا عن انتشار السرقات والسطو المسلح كوسيلة سريعة لكسب المال.
رحلة محفوفة بالمخاطر: من التهريب إلى التنقيب عن الذهب
لم يكن العثور على وظيفة أمرًا سهلًا بالنسبة لـ”م.ع”، فبعد أن ضاقت به السبل، لجأ إلى التهريب كوسيلة لكسب الرزق. بدأ بتهريب الوقود، ثم انتقل إلى تهريب السلع المختلفة، حتى دخل في تجارة السلاح والمخدرات. كما جرّب التنقيب عن الذهب، لكنه اكتشف أن هذا المجال ليس أقل خطورة من التهريب، حيث واجه صراعات شديدة ومخاطر تهدد حياته.

الاعتقالات المتكررة وإدراك الواقع.
لم يكن هذا الطريق خاليًا من العواقب، فقد تعرض “م.ع” للاعتقال عدة مرات أثناء محاولاته التهريبية، لكنه كان يعود إلى نفس النشاط بعد خروجه من السجن، ظنا منه أنه لا يوجد خيارات أخرى. كانت كل محاولة تحمل معها خطرًا أكبر من السابقة، حتى وصل إلى نقطة تحول غيرت مجرى حياته.
رصاصة غيرت كل شيء.
في إحدى عمليات التهريب، تعرض “م.ع” لإطلاق نار خلال اشتباك بين عصابات التهريب، وأصيب برصاصة كادت تودي بحياته. بينما كان ينزف في الصحراء، أدرك أن حياته أصبحت على المحك، وأن استمرار هذا الطريق لن يؤدي إلا إلى الموت أو السجن المؤبد. كانت تلك اللحظة نقطة تحول حقيقية، حيث قرر التراجع عن كل ما كان يفعله.
بداية جديدة: من التهريب إلى التجارة المشروعة.
بعد تعافيه من الإصابة، قرر “م.ع” تغيير مسار حياته نهائيًا. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه وجد دعمًا من أفراد عائلته، الذين ساعدوه في فتح محل صغير لبيع المواد الغذائية في حيه. رغم بساطة المشروع، إلا أنه كان خطوة مهمة نحو حياة أكثر استقرارًا.

العمل بكرامة أفضل من العيش في خوف.
اليوم، يشعر “م.ع” بالرضا عن قراره، رغم أن الأرباح التي يجنيها من متجره المتواضع ليست كبيرة. يقول بفخر: “لم يكن من السهل أن أبدأ من الصفر، لكنني قررت ألا أعود أبدًا إلى التهريب. الآن، لدي متجر صغير أبيع فيه المواد الغذائية، وأكسب رزقي بكرامة. صحيح أن الأرباح ليست كبيرة، لكنني أعيش بسلام، ولا أخشى المطاردات أو السجن أو الموت في الصحراء.”
هل يمكن للشباب الليبيين العثور على بدائل؟
قصة “م.ع” تعكس واقع الكثير من الشباب الليبيين الذين تدفعهم البطالة إلى الدخول في عالم الجريمة، لكنهم في النهاية يسعون للعودة إلى طريق العيش الشريف إذا توفرت لهم الفرصة المناسبة. يبقى السؤال: هل يمكن أن يجد الشباب الليبيون البدائل الكافية قبل أن يجبروا على دخول عالم لا خروج منه إلا بالموت أو السجن؟
الهجرة غير النظامية .. البحر كملاذ أخير.
مع تراجع الفرص داخل ليبيا، يتجه الشباب نحو خيار آخر، وهو الهجرة غير الشرعية.
ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، فإن نسبة كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين المنطلقين من ليبيا هم ليبيون، وليس فقط من الدول الأفريقية الأخرى كما كان يُعتقد سابقًا.
تشمل الأسباب الرئيسية التي تدفع الشباب للهجرة انعدام الفرص الاقتصادية، والاضطرابات الأمنية، واستغلال شبكات التهريب لحالة اليأس التي يعيشها الشباب، حيث يُوهمونهم بإمكانية الوصول إلى أوروبا بسهولة، رغم المخاطر التي تنتهي غالبًا بغرق القوارب في البحر المتوسط.

الهروب من المجهول: كيف دفعت البطالة وانعدام الحقوق المدنية الشباب الليبي إلى الهجرة؟
البطالة وانعدام الحقوق المدنية.. قيدٌ يطارد الشباب، البطالة في ليبيا ليست مجرد غياب فرصة عمل، بل هي مشكلة أعمق تتعلق بانعدام الحقوق المدنية للكثير من الشباب الذين لا يملكون وثائق رسمية أو رقمًا وطنيًا يضمن لهم الحصول على وظائف أو حتى الخدمات الأساسية. يعيش آلاف الشباب الليبيين في وضع قانوني غير واضح، مما يجعلهم محاصرين بين الفقر والتهميش، غير قادرين على الاندماج في سوق العمل أو حتى العيش بكرامة في وطنهم.
البحث عن المجهول: الهروب من وطن لا يعترف بهم.
لم يكن “أ.ح”، شاب ليبي في العشرينيات، يحلم بمغادرة بلاده، لكن البطالة وانعدام الحقوق المدنية جعلاه يشعر وكأنه غريب في وطنه. لم يكن يملك رقمًا وطنيًا، وبالتالي لم يكن قادرًا على العمل بشكل رسمي، ولم تكن أمامه أي فرصة للحصول على حقوقه كمواطن، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي. أمام هذا الواقع القاسي، قرر أن يبحث عن مستقبله في مكان آخر.
المحاولة الأولى: الموت أقرب من الأمل.
قرر الشاب تجربة الهجرة غير الشرعية عبر البحر، باع كل ما يملك ليحجز مقعدًا في أحد القوارب المتجهة إلى أوروبا. لم يكن خائفًا من الموت بقدر خوفه من البقاء في ليبيا بلا مستقبل أو حقوق، لكن رحلته الأولى لم تكتمل. “عندما غرق القارب، فقدت كل شيء، لكنني ما زلت أفكر في إعادة المحاولة لأنني لا أرى بديلًا.”

الخيار الأخير: الهروب عبر البر.
بعد نجاته من غرق القارب، لم يفقد الأمل. حاول مجددًا، لكن هذه المرة عبر الطرق البرية، حيث تمكن من العبور إلى إحدى الدول المجاورة. هناك، بدأ رحلة جديدة بحثًا عن إعادة التوطين في بلد يضمن له حقوقه التي لم يحصل عليها في بلده.
إعادة التوطين.. وطن جديد يعترف به.
انتظر سنتين في الدولة المجاورة، متحملًا الصعوبات والتحديات، لكنه ظل متمسكًا بحلمه. وبعد سنوات من الانتظار، حصل على فرصة لإعادة التوطين في بلد جديد، حيث منحته الحكومة الجنسية والحقوق التي كان يفتقدها في وطنه الأم.
التعلم من أجل بداية جديدة.
اليوم، يعيش “أ.ح” في وطن جديد، لكنه لم يتوقف عن الكفاح. “الآن أتعلم اللغة، حتى أتمكن من الحصول على فرصة عمل حقيقية وأبدأ حياتي من جديد.” رغم كل المخاطر التي مر بها، يؤمن أن خياره كان صائبًا، فالبحث عن حياة كريمة لم يكن رفاهية، بل كان ضرورة وجودية.
هل تصبح ليبيا وطنًا لأبنائها؟
قصة “أ.ح” هي واحدة من بين آلاف القصص لشباب ليبيين وجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم، بسبب غياب الحقوق المدنية، وانعدام الرقم الوطني، والبطالة التي سلبتهم حق العيش بكرامة. ما لم تتخذ الحكومة خطوات جدية لحل هذه الأزمات، ستظل ليبيا تفقد شبابها، وسنرى المزيد من القوارب تغرق في البحر، والمزيد من العقول تضيع بحثًا عن وطن آخر يعترف بهم.

فهل يمكن أن تصبح ليبيا بلدًا يحتضن أبناءه، أم أن قصص الهجرة ستظل تتكرر بلا نهاية؟
آراء حول البطالة في ليبيا وتأثيرها على الشباب.
ترى الممرضة عائشة مسعود عداس أن البطالة في ليبيا باتت تمثل تحديًا خطيرًا، خاصة لفئة الشباب، الذين يواجهون أزمات اقتصادية واجتماعية ونفسية تهدد استقرارهم ومستقبلهم. فارتفاع معدلات البطالة يولد الإحباط ويؤدي إلى فقدان الأمل، مما قد يدفع بعض الشباب إلى البحث عن حلول بديلة قد تكون غير قانونية، مثل الانخراط في أنشطة إجرامية أو اللجوء إلى الهجرة غير الشرعية بحثًا عن فرص أفضل.
لكنها تؤكد أن البطالة ليست المشكلة الوحيدة، فهناك عوامل أخرى تُسهم في تعقيد الوضع، مثل ضعف سيادة القانون، وانتشار الفساد، وغياب المشاريع التنموية، إلى جانب الأوضاع السياسية غير المستقرة التي تعيق الاستثمار وتعرقل عجلة الاقتصاد.
الرقم الإداري والهجرة غير الشرعية.
من بين العقبات التي تعزز البطالة في ليبيا مسألة الرقم الإداري، حيث يجد الشباب الذين لا يحملونه أنفسهم في وضع قانوني غير واضح، مما يمنعهم من الحصول على وظائف رسمية أو التمتع بحقوقهم كمواطنين.
هذا الشعور بالإقصاء وعدم الانتماء يدفع العديد منهم إلى البحث عن فرص خارج البلاد، حتى لو كان ذلك عبر طرق غير مشروعة مثل الهجرة غير النظامية.
ومع غياب حلول جذرية لهذه المشكلة، تظل الهجرة بالنسبة لهم الخيار الوحيد للوصول إلى حياة أكثر استقرارًا ومستقبل أكثر وضوحًا.
البحث عن حلول مستدامة.
لمواجهة هذه التحديات، يجب أن تتكاثف جهود الدولة والقطاع الخاص لإيجاد حلول عملية ومستدامة.
من بين هذه الحلول ضرورة خلق فرص عمل جديدة من خلال دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، حيث يمكن أن تسهم هذه المشروعات في توفير فرص عمل واسعة للشباب وتعزز الاقتصاد المحلي. كما ينبغي تطوير نظام التعليم والتدريب المهني ليكون متماشياً مع احتياجات سوق العمل، مما يساعد الشباب على اكتساب المهارات المطلوبة وزيادة فرص توظيفهم. بالإضافة إلى ذلك، يعد تعزيز الاستقرار الأمني والسياسي عاملًا رئيسيًا لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وهو ما يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد وخلق المزيد من الوظائف. إن معالجة مشكلة البطالة في ليبيا لا تتطلب فقط إصلاحات اقتصادية، بل تحتاج إلى رؤية شاملة تستهدف تحسين البنية التحتية وفرص العمل، وتضمن مستقبلًا أكثر استقرارًا للشباب الليبي.

البطالة.. سلاح فتاك يهدد استقرار المجتمع.
تصف السيدة زمزم أحمد، الناشطة في مؤسسات المجتمع المدني والمهتمة بدور المرأة والشباب في المجتمع الليبي، البطالة بأنها سلاح فتاك وقنبلة موقوتة تهدد استقرار المجتمع. فآثارها لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تمتد لتؤثر على الأسرة والمجتمع بأكمله، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
التأثير الأسري للبطالة.
تتسبب البطالة في ضغوط نفسية وصراعات داخل الأسرة، حيث يعاني الشباب العاطلون من فقدان الثقة بالنفس والشعور بأنهم عبء على أسرهم ومجتمعهم. هذه المشاعر السلبية قد تجعلهم أكثر عدوانية وغير قادرين على التكيف مع محيطهم، مما يزيد من التوترات الأسرية ويؤثر على التماسك العائلي.
التأثير الاجتماعي للبطالة.
على المستوى الاجتماعي، يفقد الشاب العاطل عن العمل إحساسه بالهوية والانتماء، مما يجعله يشعر بالتهميش. هذا الشعور يؤدي به إلى العزلة والانغلاق في دائرة اجتماعية محدودة جدًا، الأمر الذي قد يراكم لديه مشاعر الإحباط واليأس، مما يجعله عرضة للانحراف السلوكي أو الوقوع في أزمات نفسية.
التأثير المجتمعي للبطالة
تؤدي البطالة إلى تفشي الجريمة والعنف، حيث يلجأ بعض الشباب إلى المخدرات والانحراف نتيجة غياب الفرص والبدائل. كما أن البطالة تعد من الأسباب الرئيسية للهجرة سواء الداخلية أو الخارجية، حيث يسعى الشباب إلى البحث عن فرص حياة أفضل خارج بلادهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تساهم في زيادة الانقسامات الاجتماعية، مما قد يؤدي إلى نزاعات داخل المجتمع نفسه نتيجة التفاوت الطبقي والإحساس بعدم العدالة الاقتصادية.

البطالة كدافع للهجرة والجريمة.
كما ذكرت السيدة زمزم أحمد، فإن البطالة تعد أحد العوامل الأساسية التي تدفع الشباب إلى الهجرة، سواء بشكل شرعي أو غير شرعي، بحثًا عن فرص عمل وتحقيق الذات. كما أنها تلعب دورًا رئيسيًا في انتشار الجريمة والانحراف، حيث يصبح بعض العاطلين عن العمل فريسة سهلة للجماعات الإجرامية التي تستغل حاجتهم للمال والاستقرار.
الحلول المقترحة لمواجهة البطالة.
لمعالجة هذه المشكلة، يجب العمل على تعزيز التعليم والتدريب المهني لتأهيل الشباب العاطلين عن العمل وتزويدهم بالمهارات المطلوبة في سوق العمل. كما يجب توفير فرص عمل لهم من خلال إطلاق مشاريع تنموية تدعم الاقتصاد المحلي، وتشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى خلق بيئة مناسبة للاستثمار تتيح للشباب فرصة للنمو والابتكار. إن إيجاد حلول عملية لمشكلة البطالة لا يسهم فقط في تحسين حياة الأفراد، بل ينعكس إيجابيًا على استقرار المجتمع ككل، ويحد من المشكلات الاجتماعية التي تنشأ بسببها.
رأي شاب عاطل عن العمل: بين الأمل والإحباط.
يقول عبدالله محمد، شاب ليبي عاطل عن العمل، إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة وعدم الاستقرار السياسي جعلا فرص التوظيف شبه معدومة، خاصة للشباب الذين لا يملكون علاقات أو دعمًا يساعدهم في إيجاد فرص عمل. ورغم حصوله على شهادة جامعية، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ليضمن له وظيفة تتيح له حياة كريمة، مما جعله يشعر بالإحباط والضياع.
ويضيف: “أشعر بأنني أعيش في دوامة من الانتظار، فأنا لا أملك وظيفة تساعدني على بناء مستقبلي، وفي الوقت نفسه لا أريد مغادرة بلدي وترك أهلي، لكن الظروف تجبرنا على التفكير في الهجرة كخيار أخير. أحلم بأن أعمل وأساهم في بناء وطني، لكن للأسف لا توجد فرص حقيقية، ومع ارتفاع تكاليف المعيشة يصبح البقاء دون عمل أكثر صعوبة.”
ويؤكد عبدالله أن البطالة ليست مجرد غياب وظيفة، بل هي معاناة نفسية واجتماعية تجعل الشاب يشعر وكأنه خارج دائرة المجتمع، خاصة عندما يرى أقرانه يعانون مثله. ويشير إلى أن ارتفاع المهور وعدم قدرة الشباب على تأمين تكاليف الزواج أصبحا تحديًا إضافيًا يعمق الأزمة، حيث يجد الكثيرون أنفسهم عاجزين عن تأسيس حياة أسرية مستقرة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية.
ويختم حديثه قائلاً: “ما نحتاجه حقًا هو أن تولي الدولة اهتمامًا أكبر بالشباب، وتوفر لنا فرص عمل تتناسب مع قدراتنا وطموحاتنا، وتعمل على تسهيل أمور الزواج وتخفيف الأعباء المالية عن الشباب، حتى لا نُضطر للبحث عن مستقبلنا في أماكن أخرى.”
البطالة تدفع الشباب إلى خيارات قاسية.
يروي أحمد سالم، شاب ليبي حاصل على شهادة جامعية، كيف اضطر للانضمام إلى إحدى الميليشيات بعدما فشل في العثور على وظيفة رغم سنوات الدراسة والتعب. يقول أحمد: “درست وتخرجت مثل غيري، ولكن بعد التخرج وجدت أن الشهادة وحدها لا تكفي. كنت أبحث عن عمل لأعيل أسرتي، فأنا المسؤول عن ست شقيقات ووالدتي الأرملة، لكن لم تكن هناك أي فرص متاحة. حاولت كثيرًا، طرقت جميع الأبواب، ولكن في النهاية وجدت نفسي بلا خيار سوى الانضمام إلى إحدى المجموعات المسلحة، فقط لأتمكن من توفير لقمة العيش لعائلتي.”
ويضيف بحزن: “لم أكن أريد ذلك، ولكن عندما ترى والدتك وشقيقاتك يعانين ولا تجد من يساعدك، تضطر لاتخاذ قرارات صعبة. كنا نتمنى لو أن هناك برامج لدعم الشباب وتوفير فرص عمل حقيقية، بدلًا من أن نجد أنفسنا في مثل هذه الظروف. عندما أعلنت الدولة عن منحة الزواج، تمنيت لو كان هناك برنامج مماثل لدعم المشاريع الصغيرة، كنا سنستفيد منها بشكل أفضل ونبني مستقبلنا بأنفسنا، بدلًا من أن نجد أنفسنا مجبرين على سلك طرق لا نريدها.”
ويؤكد أحمد أن الشباب الليبيين بحاجة إلى فرص حقيقية تساعدهم على بناء حياتهم بكرامة، بدلًا من أن يكونوا ضحايا للبطالة والفقر، مما يدفعهم إلى خيارات يندمون عليها لاحقًا. “لا نريد سوى فرصة للعمل، لنعيش بكرامة ونبني مستقبلنا بدلًا من أن نُستخدم كأدوات في صراعات لا تخدم الوطن ولا تحقق لنا أي استقرار.”
البطالة وتأثيرها النفسي والاجتماعي
ترى فردوس الأنصاري، معالجة نفسية وناشطة في المجتمع المدني، وطالبة ماجستير في الإرشاد والتوجيه النفسي، أن البطالة في ليبيا ليست مجرد تحدٍ اقتصادي، بل هي مشكلة ذات أبعاد نفسية واجتماعية عميقة تؤثر على استقرار الشباب وقدرتهم على بناء مستقبل واضح. غياب الفرص الوظيفية يدفع العديد منهم إلى الشعور بالإحباط واليأس، مما يزيد من احتمالية انخراطهم في أنشطة غير قانونية أو التفكير في الهجرة غير الشرعية بحثًا عن فرص أفضل.

البطالة ليست العامل الوحيد
تؤكد الأنصاري أن البطالة تلعب دورًا رئيسيًا في هذه الظواهر، لكنها ليست العامل الوحيد. فهناك أسباب أخرى مثل عدم الاستقرار السياسي والصراعات المستمرة التي تؤثر على الاقتصاد وتحد من فرص الاستثمار، بالإضافة إلى ضعف النظام التعليمي والتدريبي الذي يجعل العديد من الشباب غير مؤهلين لسوق العمل. كما أن الفساد والمحسوبية تعيق وصول الكفاءات إلى الوظائف المتاحة، بينما يؤدي غياب الاستثمارات في القطاعات المنتجة إلى تضييق فرص العمل بشكل أكبر.
أهمية الحلول الاقتصادية والاجتماعية
ترى الأنصاري أن الحلول يجب أن تشمل استراتيجيات اقتصادية واضحة، مثل تشجيع الاستثمار ودعم المشاريع الصغيرة، من خلال توفير التمويل والتسهيلات للشباب الراغبين في بدء أعمالهم الخاصة. إصلاح النظام التعليمي والتدريبي يعد أمرًا ضروريًا ليتماشى مع احتياجات السوق، إلى جانب تعزيز الاستقرار السياسي والأمني لجذب المستثمرين المحليين والأجانب. كما أن محاربة الفساد وتعزيز الشفافية يساهمان في ضمان تكافؤ الفرص داخل سوق العمل، مما يعزز من قدرة الشباب على الحصول على وظائف مستدامة.
التأثير النفسي للبطالة وطرق المعالجة
تشير الأنصاري إلى أن البطالة تؤثر بشكل مباشر على الصحة العقلية للشباب، حيث تزيد من معدلات التوتر والقلق والاكتئاب، خاصة مع الإحساس بعدم القيمة أو الفشل في تحقيق الأهداف الشخصية. وتوصي بضرورة تعزيز الوعي بالصحة النفسية، من خلال تقديم برامج توعوية حول كيفية التعامل مع الضغوط النفسية المرتبطة بالبطالة، بالإضافة إلى توفير منصات دعم نفسي عبر الإنترنت أو من خلال مراكز متخصصة للشباب.
بناء عقلية النمو والتكيف مع التغيرات
من المهم أن يدرك الشباب أن البطالة ليست نهاية الطريق، بل تحدٍّ يمكن تجاوزه من خلال تطوير الذات والمهارات الشخصية والمهنية أثناء فترة البحث عن العمل. إعادة تحديد الأهداف وتوسيع البدائل يساعد على اكتشاف مسارات جديدة مثل العمل الحر أو المهارات الرقمية، في حين أن بناء المرونة الذهنية والتكيف مع التغيرات يسهم في تقليل الشعور بالإحباط.

دور المجتمع والدعم النفسي
تؤكد الأنصاري أن مشاركة التجارب والتحديات مع الآخرين من خلال مجموعات دعم شبابية يقلل من الشعور بالعزلة ويساعد في إيجاد حلول جماعية. تعزيز النشاطات التطوعية والمجتمعية يمنح الشباب إحساسًا بالإنجاز والقيمة، مما يساهم في تحسين صحتهم النفسية ويساعدهم على البقاء متحفزين للمستقبل.
أهمية التوازن النفسي والأنشطة الإيجابية
ممارسة الرياضة والتأمل يساعدان على تقليل التوتر وتحسين الحالة المزاجية، مما يعزز القدرة على مواجهة الضغوط المرتبطة بالبطالة. تخصيص وقت للترفيه والنشاطات الإيجابية يساعد على استعادة الطاقة الذهنية ويقلل من التأثيرات السلبية التي قد تترتب على فقدان العمل.
ختمت الأنصاري قولها بأن البطالة في ليبيا ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل قضية تمس الأمن الاجتماعي والاستقرار النفسي للشباب. الحلول لا تكمن فقط في خلق وظائف، بل في بناء بيئة متكاملة تدعم الشباب اقتصاديًا ونفسيًا، وتساعدهم على تطوير أنفسهم بدلاً من الاستسلام لليأس أو اللجوء إلى خيارات محفوفة بالمخاطر مثل الجريمة أو الهجرة غير الشرعية. معالجة هذه الأزمة تتطلب تكاثف الجهود بين الحكومة، المجتمع المدني، والمؤسسات الاقتصادية، لضمان مستقبل أكثر استقرارًا للأجيال القادمة.
تصريح أمني حول تأثير البطالة على الجريمة في ليبيا
يؤكد ضابط أمني في وزارة الداخلية (رفض الكشف عن هويته) أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الجرائم المرتبطة بالشباب العاطلين عن العمل، خاصة في المناطق الحدودية، حيث يُستغل بعضهم من قبل تجار السلاح والمخدرات، بينما ينخرط آخرون في أنشطة التهريب بحثًا عن مصدر دخل.
وأضاف الضابط أن الجهات الأمنية رصدت تزايدًا في عمليات تهريب الوقود والأسلحة عبر الحدود، والتي أصبح الشباب العاطلون عن العمل جزءًا أساسيًا منها، نظرًا للإغراءات المالية التي تقدمها شبكات التهريب والجريمة المنظمة. وأشار إلى أن بعض الشباب يتم استدراجهم من خلال وعود بالحصول على مبالغ كبيرة، لكنهم في النهاية يصبحون أدوات في يد تجار الموت، معرضين حياتهم ومجتمعاتهم للخطر.
وبحسب بيانات أمنية، فإن نسبة كبيرة من الموقوفين في قضايا التهريب والاتجار بالمخدرات هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا، وهي الفئة الأكثر تضررًا من البطالة في ليبيا. وأكد الضابط أن معالجة البطالة من خلال توفير فرص عمل بديلة ودعم المشاريع الشبابية سيكون له دور كبير في الحد من هذه الظواهر الخطيرة.

خاتمة: هل هناك أمل؟
تكشف أزمة البطالة في ليبيا عن مأساة حقيقية يعاني منها الشباب، حيث أصبحوا محاصرين بين خيارين مرّين: الانخراط في الجريمة أو الهجرة غير الشرعية. وإذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة لمعالجة المشكلة، فإن الوضع سيزداد سوءًا، وسنشهد مزيدًا من التدهور الاجتماعي والأمني.
الحلول موجودة، لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية قوية واستراتيجيات اقتصادية واضحة تستهدف الشباب، بدلًا من تركهم يبحثون عن الأمل في أماكن أخرى، أو يقعوا ضحايا لاستغلال المجرمين وشبكات التهريب.
فهل تتحرك الجهات المسؤولة لإنقاذ الجيل القادم، أم سيظل الأمل مجرد حلم بعيد المنال؟














