محمد عبد الحميد المالكي
مختبر بنغازي للسيميائيات وتحليل الخطاب تنوع تقنيات الترجمة والتأويل يقترح (جاك دريدا)، في سياق الترجمة والتأويل، مفهوم التحويل (Transformation)، بدلا من مفهوم الترجمة. ذلك لأن الترجمة ليست فقط من لغة أجنبية إلى اللغة الأم، بل أيضا داخل اللغة نفسها، كما يستشهد بـ هيدغر: “إن كانت عملية الترجمة هى التقاء ما بين لغتين، لتجعلهما تدخلان في حوار فيما بينهما، فإن ذلك لا يشكل العنصر الجوهري للترجمة.. لأن الكلام نفسه، إذا نطق به، و كتب داخل اللغة الأم، يكون في حاجة إلى تأويل، بالتالي فإن هناك بالضرورة ترجمة داخل اللغة الأم ذاتها”، لعل هذا ما يبرر وجود قواميس لا تنقل لغة إلى أخرى، إنما تترجم داخل اللغة ذاتها، ما يشكل جوهر الترجمة، ليس كحركة بين اللغات فقط، وإنما كونها تأويلا أيضا.. فالتأويل والترجمة في جوهرهما الشيء نفسه..
ترجمة داخل اللغة نفسها، حسب تقسيم (جاكبسون) لأنواع الترجمة، أو ما دعاه بالترجمة داخل اللغة (Inter-Language)، أو إعادة الصياغة (Rewording)، التي تهتم بعلاقات التحويل القائمة بين أسماء الجنس والجمل العادية، إذ ميز بين ثلاثة أشكال للترجمة: الأول: الترجمة داخل اللغة تؤول العلامات اللسانية بواسطة علامات من نفس اللغة، يقصد المعاجم والقواميس إنجليزي – إنجليزي، عربي -عربي، كما هو حال معجمنا هنا. الثاني: التسمية الجميلة، التي أطلقها جاكبسون، الترجمة بين اللغات، التي تؤول العلامات اللسانية بواسطة لغة أخرى، ما يؤدي إلى نفس مقتضيات الترجمة داخل اللغة. الثالث: الترجمة على مستوى التبادل الدلالي (Inter-Semiotic)، أو التحويل الذي يؤول العلامات اللسانية إلى علامات غير لسانية. بل قد نذهب أبعد من ذلك مع أمبرتو إيكو ليس هناك لغة واحدة، بل هناك لغات متعددة داخل اللسان الواحد. لأن اللغات الدارجة (اللهجات) لا تختلف بين المدن والقرى فقط، بل تختلف أيضا داخل المدن بين الأحياء الفقيرة وتلك الغنية.
كذلك بين كل المجموعات اللسانية المختلفة لأصحاب المهن الواحدة وبين الشباب والكهول..إلخ. كل ذلك يحتاج إلى عمليات شرح وتعبيرات إذا لم يتفاهم كل هؤلاء الفرقاء، كأن يستفسر أحدهما عن معنى كلمة أو شرح معانيها، فما هى إلا نفس العملية التي تقوم المعاجم والقواميس في شرح المادة المعجمية (Lexeme).(هل هناك معنى آخر لمفهوم الترجمة؟) كما نود أن نشير إلى بعض المصادرات الإجرائية والنظرية، باعتبارها اتفاقا تعاقديا بين النص والمتلقي من أجل التعامل المفيد والمجدي مع هذا المعجم: (*) إن المصطلحات في العلوم التطبيقية (التجريبية)، على مدى أكثر من قرنين تقريبا، لها شروط استعمال جد منضبطة ودقيقة.
ربما بفضل الإنجازات العلمية ومنتجاتها في تغيير تفاصيل حياتنا اليومية. فكان على العلوم الاجتماعية، حسب تعبير اشتراوس، أن تتعلم هذا الدرس، ما يمنحها الاستحقاق بالانضمام لحقول العلوم التطبيقية. إذ أصبحت العلوم الاجتماعية تعاني من ترهل في المصطلحات وعشوائية الاستخدامات، ربما نتيجة هيمنة حقول الأيديولوجيات المعيارية: قيمتي الصواب والخطأ، الحقيقي والزائف..إلخ. (*) الجهاز المفاهيمي (definite system)، إذا كانت (definition) تقابل في العربية الحد أو التحديد، بمعنى التحديد المستهدف التوضيح والشرح الصريح، لأن الحدود هي ما يتعين به المتصور(من الصورة، عكس المثال). فأن تعرف فإنك تقيم حدوداً، كما يقال عادة بالمنطق الأرسطي، وما بعد الحد هو إدراك تصور ما (مفهوم concept) كما إن مسألة الحدود تؤدي إلى التعريفات، أي إلى المفهوم ( = الشيء) أو التصور أوالماهيات. ذلك أن دلالة علامة الترقيم (النقطتين)، هنا تعني امتلاك الحقيقة الكاملة والمطلقة والنهائية، وبالتالي لا تحتمل الصدق أو الكذب (أوالتأويل)، وكما يقول الشريف الجرجاني:”إن التصور هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات”. (*) أهمية السياق النظري للمفاهيم، أو السياق التاريخي، بالمعنى الأبستمولوجي، وليس بالمعني التحقيب أو التسلسل الكرونولوجي، هذه الإشكالية موجودة في اللغة الإنجليزية أيضا، وليس في اللسان العربي فقط. كما أن كل مصطلح أو مفهوم يكون خاضعا للمعنى حسب كل مدرسة علمية (تارتو، مدرسة باريس، كونستانس، اللسانيات النصية، أو من نظريات تلك المدارس أيضا. بل نذهب أبعد من ذلك فقد يتم ترجمتها، داخل اللغة نفسها أو إلى لغة أجنبية أخرى، حسب سياق كل مقاربة علمية منفردة كذلك.
الأمر الذي يتضح لنا في المقدمة والهوامش خاصة، أو في المسوغات، التبريرات الإجرائية (justification) لكيفية الاستخدام، باعتبارها عدة وأدوات نظرية. (*) أهمية التمييز بين “الظاهرة” بالمعنى الفيزيائي، وبين “المقاربة” العلمية. إذ أن الظاهرة أكبر من أن تحتويها أي مقاربة مهما كانت درجة دقتها النظرية والإجرائية. ذلك لأن “العلم” ما هو إلا محاولات واقتراحات لمقاربة الظاهرة، في الإطار الوصفي والاستدلالي للظاهرة، أو السمولاكر (الشبيه Simulation/ Simulacra). ذلك لأن المقاربة، أو “اللغة الواصفة” (الميتالغوية)، ليست الظاهرة نفسها، المعنية بالبحث والاستدلال. إذ أن هذا الخلط، أي عدم التمييز الواضح بين “الظاهرة” و”كيفية” مقاربتها، سيؤدي بنا إلى فوضى أبستمولوجية. فبدلا من البحث في استشكالات للظاهرة، يتم التعامل مع العدة والأدوات المفاهيمية، باعتبارها هى “الظاهرة”. مما قد يؤدي إلى نشوء الأوهام ليتحول البحث العلمي إلى الحس المشترك (common sense)، أو التهريج الانطباعي والتأملات والتهويمات التي لا طائل من ورائها. لهذا يتردد الكلام ليس في البحوث والدراسات فقط، بل حتى في الحياة اليومية: كلام حقيقي، واقعي، صادق..إلخ الأوهام، أو تأملات التهريج الانطباعي، وعلى النحو الذي جاء بالعنوان هنا ومتن هذه الملاحظات. ولعل من أسباب تفسير هذا الأمر، الذي هو جد متأصل في الأساس المعرفي للسانيات والدراسات اللغوية، تحديدا علوم النحو والنقد الأدبي، لأن أساس أشغالها باللغة الواصفة، إضافة إلى أيديولوجيا الهوية، أو التشيع للغة القومية (أو اللسان). بالتالي فإن أكبر تحدٍ للتفكير العلمي يكمن في أخطر الالتباسات بين الظاهرة من جهة وبين “المقاربات” من جهة أخرى. (*) كما نشدد على ضرورة العناية بمبادىء ترتيب كيفية تعقل العالم: المقارنة، فالتصنيف ثم التجريد، سواء كانت بالوصل أو الفصل أو التضمين، بالمعنى البنيوي. كما لا يجب أن ننسى؛ أنها عمليات إجرائية مؤقتة بل ومتعسفة أيضا من أجل كيفية تعقل العالم. أما في حالة تدوال للكلام (مع متلق)، فإن التجريد (أو المفهوم) أو كل وحدة معجمية، ستتحول بدورها إلى مركز دلالي، ضمن شبكة من الأنساق الدلالية القابلة للتأويل اللانهائي، أو طبقا لثلاثيات بيرس لصيرورة العلامات (السميوزيس Semiosis). (*) أخيـرا، ربما يكون أولا، أن كل ما نقارب به “الظاهرة”، من أدوات نظرية وإجراءات مفاهيمية، ما هو إلا محاولات واقتراحات، قابلة للتعديل والإضافة بل وحتى الإلغاء أيضا، لصالح الانفتاح على تعقل الظاهرة. هذا هو الدرس الذي على اللغة الواصفة (الميتالغوية) للعلوم الاجتماعية أن تتعلمه من العلوم الفيزيائية والطبيعية. إذ أصبح من المخجل أن نتعامل باستراتيجيات تأملية انطباعية، بعد قرن ونصف من الإنجازات الباهرة لعلوم الأبستمولوجيا: الكوانتم والكاوس، والتطبيقات العلمية، حتى على المستوى التجاري والصناعي: كومبيوتر الكوانتم، السيميائيات البيولوجية، علاقة الدماغ باللغة، علم النفس المعرفي (الإدراكي، العرفاني)..إلخ. لكل ذلك؛ تصبح أهمية التمييز بين المفاهيم، باعتبارها “الشبيـه”(سمولاكر Simulacra)، وبين الظاهـرة، بالمعنى الفيزيائي. هذا التمييز لا غنى عنه في شروط البحث العلمي المنضبط، بل هو الشرط، صمام الأمان، للابتعاد عن حقول العلم الزائف.. أو كيفية صناعة الأوهام العلمية..!