ليبيا .. فحيح الأفاعي !!

ليبيا .. فحيح الأفاعي !!

  • المهدي يوسف كاجيجي

في جريدة الحرية.. كان لدينا باب يومي، على الصفحة الاخيرة يحمل اسم” ثرثار”، يشارك في تحريره معظم المحررين، وتتم كتابته بشكل “نميمة” سياسية واجتماعية: “يقال إنّ” و”يشاع أنّ”، حتى لا تتحمل الجريدة ورئيس التحرير المسؤول العقوبات الجنائية المترتبة عن ذلك. كان هذا الباب من أكثر الأبواب قراء. نشر خبر في أحد الايام يقول (في مستشفى طرابلس المركزي، تجرى هذه الايام عملية صيانة وتنظيف، يقال ان السبب هو تعرض مسؤول كبير بوزارة الصحة لوعكة صحية، ندعو الله له بطول الإقامة، حتى يستفيد بقية المرضى، ومصائب قوم عند قوم فوائد). في اليوم التالي، تلقينا دعوة للمثول لدى نيابة المطبوعات، للتحقيق معنا بتهمة الإساءة والتشهير للسيد وزير الصحة، الذي كان وقتها السيد عمر جعودة رحمه الله. في نفس الوقت، تلقيت مكالمة هاتفية من الاستاذ احمد الصالحين الهوني وزير الاعلام رحمه الله، كان الرجل أثناءها معاتبا بشدة على ما نشر وخاصة فقرة “الدعاء بطول الإقامة”، واقترح لملمة الموضوع ومرافقته لزيارة السيد جعودة.

دخلنا على الرجل في المستشفى: حجرة عادية، لا تختلف عن بقية الحجرات. صافحته، فبادرني بصوت أبويّ: “يا بني! ماذا فعلت لكم؟ حتّى تدعون لي بطول المرض، فعلى الأقل أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك “. شعرت يخجل لا حدود له وعرفت وقتها معنى قسوة الكلمة وتأثيرها الجارح على النفس. تدخل الاستاذ احمد الصالحين بسرعة بديهته وحلت الابتسامات وعمّت المكان، فاقترح الاعتذار للسيد الوزير كتابة على صفحات الحرية. أبدى الرجل الكريم رفضه لأي اعتذار واعتبر الزيارة من ابن لأبيه كافية، وقال لي في نهاية اللقاء، تذكر يأبني قول الشاعر: جراح السهام لها التئام *** ولا يلتئم ما جرح اللسان. كان درسا… لازمني طوال حياتي المهنية

فحيح الأفاعي
تذكرت تلك الايام وانا أتابع المشهد الإعلامي الليبي ومعالجته الخلاف القائم بين الأطراف المتنازعة، عبر الوسائل المتاحة، والأكثر تأثيرا، وهي القنوات الفضائية، ومواقع الاتصال الاجتماعي. والملاحظ ان معظمها اتخذت مواقف انقسامية وانحاز كل فريق للحزب او الجهة الممولة له، بمنظور الرؤيا بعين واحدة “على رأى الاستاذ حسن الامين”، وشمل ذلك صياغة الخبر في النشرات الإخبارية ، البرامج الحوارية التي يتم أعدادها مسبقا بين المذيع والضيوف . الكل يكشّر عن أنيابه، والكل يمضغ لحم الاخر بلا رحمة. الغريب لم يراع احد منهم حالة التمزق الذى يعيشه الوطن، بل وكأن الكل يتبارى على توسيع رقعة التمزق، وضخ الملح في الجرح الليبي النازف، فبدت أصوات المشاركين كفحيح الأفاعي تبث سمومها، حتّى أنّ ما يطلق عليه اسم مؤتمرات او لقاءات او دعوات للمصالحة، يتم التشكيك في نواياها قبل انعقادها.

الخطاب الديني لم يسلم من التفرقة، وتحولت المنابر في بيوت الله إلى قواعد هجوم كل طرف على الطرف الاخر، ووُظِّف النصّ الديني وتفسيره بما يتناسب مع أهداف كل فريق وتوجهاته الفكرية ومصالحه الدنيوية بطريقة “لنا غفور رحيم ولكم شديد العقاب”

.الامل.. فى الكلمة الطيبة
للكلمة سحرها ان كانت صادقة، وحكيمة، منطلقة من قلب عاشق للوطن، يؤمن بحق المواطنة للجميع بما لها وما عليها. نحن نمرّ بمرحلة انحدار نحو المجهول بالغة الخطورة، وطن يكون او لا يكون، ميراث تبعثر، فتستطيع الكلمة البلسم ان تجمع ما تفرق رغم الجراح، كلمة تجمع ولا تفرق، ترى في ليبيا الامل والمستقبل، والوطن الذى ورثناه موحدا، ودينا علينا ان نورثه موحدا. نحن بحاجة الى كلمة تدعو الى الحب، وليست فحيح أفعى تنشر السموم والموت.

انا لست حالما يا سادة، فكلنا يعرف ان من يملك القرار هو الذى يملك السلاح، وانا اعرف أيضاً ان عصر فض الخلافات بقصعات “الرز واللحم” “وعليّ الطلاق” قد ولّى. وانا اعرف أيضاً ان ثقافة عين الغنيمة هي السائدة الان، وحجم الخلاف بين الفرقاء قد تحوّل الى جبل من الكراهية من الصعب إزالته بواسطة حسن النوايا، وكلنا نعرف ان الصراع لم يعد ليبيا صرفا، بل تدخلت فيه قوى اجنبية متصارعة المصالح، ولذا أصبح الحلّ معقدا ولكننا نجزم أيضاً ان التركيبة الليبية، عبر كل الحقب والعصور، تعرضت للكثير من العواصف العاتية، لكنها ظلت متماسكة بفضل النسيج الاجتماعي المتشابك المتداخل، الذى ظلّ صامدا رغم الاختلاف العرقي ومساحة الارض الكبيرة المترامية الأطراف، والتعداد السكاني الذى يقل عن تعداد حيّ شعبي في عاصمة لأحدى دول الجوار، ولكننا نظل البلد الوحيد في الدنيا، الذى يكفى ان يذكر الشخص فيه لقبه العائلي لتعرف الى اين تمتد جذوره.

هذه التركيبة الفريدة، تؤكد حقيقة غائبة عن أذهان المتصارعين، وهي أن ليبيا لن يستطيع ان يحكمها فريق واحد مهما كانت قوته، وان الحل الوحيد مهما طالت مدة الصراع، سينتهي بجلوس الجميع، على مائدة واحدة تحت مظلة ليبية، يحكمها القانون والأعراف الاجتماعية، فلا مفرّ من ذلك. وإذا أصرّ المتصارعون على السلطة على اعتقادهم الواهم فيعمل الكلّ على إقصاء الاخر، والانفراد بالسلطة، فهذا يعنى بداية الطريق الى نهاية وطن.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :