صالح حصن
من التاريخ و للتاريخ؛
كان الملك إدريس رحمه الله واقعياً يأخذ بأفضل المتاح لتحقيق أفضل النتائج وكان مخلصاً وفياً صادقاً ولم يكن أمامه أي يعمل أفضل مما قام به.
بات الملك طاعناً في السن و تنصيبه أصلاً كان مبني على الوفاق فقد كان وريث الحركة السنوسية كما مُعترفٌ ومُرحبٌ به في إقليمي برقة وفزان ومرضي عنه في إقليم طرابلس لحل مُعضل تعدد و تنازع الزعامات فيه التي رضيت، درءاً لعودة إيطاليا تحت مظلة “الوصاية الدولية”, بتنصيبه ملكاً لشخصه وليس وريثاً لحكم أسرته لكن ضغط إقليمي فزان وبرقة فرض أن ينص الدستور على “نظام حكم ملكي وراثي” تتعاقبه أجيال “محمد بن علي السنوسي” مؤسس الحركة السنوسية.
“الحركة السنوسية” منذ نشأتها في ليبيا كحركة إصلاحية انتبهت إلى أن غرب ليبيا لم يكن البيئة و الإحتياج الملائمين لنشاطها وأن الشرق أحوج و أفسح مجالاً، وهكذا تجذرت شرقاً مع شيء من المجافاة غرباً بسبب صلابة تنظيمها هرمي السلطة إضافة إلى تعدد و قِدم منافساتها من الحركات الإصلاحية المنتشرة قبلاً مثل الأسمرية و غيرها. نجحت الحركة السنوسية في استقطاب جميع أهل برقة وغالبية أهل فزان و كثير من مثقفي ذاك الزمان من غرب ليبيا و كان لوسطية منهجها وخلوه من العوالق والتزامها بالإصلاح الإجتماعي مع التوعية بأصول الدين فانصب عملها بدايةً على الإنتشار داخل ليبيا ثم جوارها في غرب مصر و السودان وشمال تشاد والنيجر وقد صار لها أثر فعَال في فيها غير أن موجة الإحتلالات الأوروبية لأطراف الإمبراطورية العثمانية كشمال إفريقيا دفع بها منحاً سياسياً جهادياً باعتبار ذلك واجب إسلامي مُقدس ولم تكتفِ فيه بالتحريض على الجهاد فكانت لها قيادة مميزة ومعارك وانتصارات مع جيوش الاستعمارات (الإيطالي في ليبيا والفرنسي في تشاد و البريطاني في مصر وقد كما و أبرمت تحالفات دولية ضدها خلال الحرين العالميتين. لم تنسى و تغفر لها أياً من تلك الدول الإستعمارية ذلك فقامت فرنسا بقتل المئات من تابعيها في تشاد ووهدم مباني زواياها في مناطق سيطرتها كما شنت إيطاليا بقيادة “موسيليني” عليها وعلى كل أتباعها حرب إبادة معلنة و حاصرتها بريطانيا بالتحالف مع إيطاليا فقفلت حدود مستعمرتها مصر مع ليبيا بل و قاما بتعديل تلك الحدود لما يخدم حصارهما وقد عانت ليبيا خلال سنوات حصارهما المُشترك مجاعة لسنوات حتى لم يقدر الناس على دفن موتاهم في الشوارع من شدة الجوع . شاء الله أن تعلن إيطاليا الحرب على بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ما دفع بريطانيا للتحالف مع اللاجئين من زعامات الحركة السنوسية في مصر وعلى رأسهم ” إدريس السنوسي” الذي كان الليبيون في مصر-المهجر يلتفون حوله كما لم يخفت نفوذه في ليبيا برغم قسوة الظروف لكنها أبداً لم تغفل حقدها المدفون على الحركة فكان أن رضيت بإدريس كفرد يميل للإعتدال لكنها رفضت السنوسية كمنظومة حاكمة وذلك بتوجيه النظام بعد الإستقلال الذي أشرفت على بنائه (باعتبارها كانت الموكل لها قيادة جيوش الحُلفاء في شمال إفريقيا) نحو إبعاد الحركة والأسرة تماماً عن الحكم بشكل مباشر. بعدها، ولما عاصره من إفناء و محق للحركة في ليبيا بقسوة جنود فرنسا و بريطانيا و إيطاليا, اكتفى الملك بعودة الحركة كحركة إصلاحية فقط دون التدخل في الشأن السياسي للبلاد. و إيطاليا الجديدة استمرت في عداءها بشييع كلما يهدم سلطة الملك و فكرة التوريث وذلك عن طريق التجار و رؤوس الأموال النافذين و بقايا مثقفي مدارسها خاصة في إقليم طرابلس. أما مصر عبد الناصر فلم تغب عن العمل على استنهاض العامة بشكل مباشر عبر مركزها الإعلامي و بشكل عمومي لمكافحة الأنظمة الملكية دعماً للمد الناصري القومي. وتسللت العراق البعثية من خلال فراغات هذه التجاذبات و مناصرةً لفكرها المنافس للناصرية. وشاءت إرادة الله أن لم يكن هناك الوريث المناسب للمرحة داخل الأسرة التي كبلها مؤسسها بنظام الوراثة المعقد والذي لم يعد صالحاً للمرحلة بجميع معطياتها. كان الحل أن يكون منتمياً للحركة بدلاً عن أن يكون من نسل مؤسسها لكن الحركة تحت هذه المستجدات تحوصلت و تقوقعت وانفصلت عن الناس ولم يعد لها وجود في أي مجال، حتى كان من السهل على ” معمر” أن يقضي عليها تماماً بعدما تولى السلطة.
كان الملك إدريس رحمه الله واقعياً يأخذ بأفضل المتاح لتحقيق أفضل النتائج وكان مخلصاً وفياً صادقاً ولم يكن أمامه أن يعمل أفضل مما قام به.