- سعد القذافي السني
لست هنا بمعرض الوعظ او الإرشاد ،،ولا اعتقد اني أهل لذلك فكلنا عيوب وطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الغير ،،ولكن لمناقشة فكرة الاخلاق ،،من موقع تخصصي في مجال الفلسفة ،،ومبحث الاخلاق هو احد ثلاثة مباحث رئيسية للفلسفة هي مبحث الوجود الذي يبحث في كنه الوجود وطبيعته ،، ومبحث المعرفة ويبحث في حدود المعرفة الانسانية او ما الذي يمكننا معرفته وكيف؟ ،،المبحث الثالث هو مبحث القيم الذي يضم الاخلاق وعلم الجمال ،،
،،يبحث علم الاخلاق في مصدر الإلزام الاخلاقي ،،وعلاقة الاخلاق بالدِّين وهل الاخلاق فطرية ام مكتسة وكل ما يتعلق بالاخلاق ،من إشكالات وأسئلة ،،،بمعنى ان محاولتي تريد ان تكون فلسفية لمناقشة الحالة الاخلاقية في ظل الحرب الدائرة ،،و سأنطلق ،،في مقاربتي لهذه القضية من مفهوم اللاوعي الجمعي،،وهو مفهوم استخدمه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ ،،،، ،،وقبل التطرق للاوعي الجمعي ،،أودّ ان أشير سريعا الى مفهوم اللاوعي ،عموما ،،وهو مفهوم اكتشفه فرويد الذي يرى ان النفس البشرية تتكون من جانب واعي ،،والذي نطلق عليه (الوعي)وهو كل ما يدور في كياننا النفسي ويعيه الانسان ويشعر بوجوده ،،كل الأفكار والمشاعر التي تدور في خلدنا ونشعر بها ونعيها ،لكن فرويد يرى ان هناك جانب أخر من كياننا النفسي موجود ويحركنا لكن لا نشعر به ولا نعيه جانب يفلت من رقابة العقل الواعي ،،هو مجموع الخبرات النفسية المنسية ،،والرغبات المكبوتة منذ الطفولة والصدمات التي مررنا بها منذ الولادة ،،كل هذه المعطيات لم تفنى ولم تتلاشى ،،لكنها موجودة ومخزنة وتتحكم بِنَا وتحدد سلوكنا الفردي دون وعي منا ،،،وهذا ما نسميه اللاوعي الفردي ،،هناك مستوى آخر موجود عند الأفراد ،،وهو ما اكتشفه كارل يونغ هو اللاوعي الجمعي ،،ويخزن هذا اللاوعي الجميعي كل الخبرات السابقة التي مر بها القوم او الجماعة التي ننتمي لها ، كل ما حدث لأسلافنا البعيدين والقريبين موجود في ذاكرتنا الجمعية. ،،ولم يضع منه شيء. ونتوارثه جيل عن جيل وفق آلية معقدة يطول شرحها ،،وهو الذي ،،يحدد سلوكنا الجمعي ونظامنا الاخلاقي ،، وحتى نوع ونمط الأحلام الليلية التي تراودنا وأثبت يونغ وجود هذا المستوى من اللاوعي عن طريق تحليل احلام ورؤى مرضاه فقد اكتشف ان المرضى يَرَوْن رموز تظهر لهم في الأحلام هذه الرموز تنتمي الى أساطير قديمة موغلة في القدم ،،لم يراها المرضى من قبل ولا دراية لهم بها ،،،فكيف وصلت الى احلامهم ،،ومن المعروف ان الأحلام الليلية هي انتاج نفسي ينتمي الى اللاوعي او العقل الباطن. اذا وانطلاقا من تجارب سريرية صاغ يونغ مفهوم اللاوعي الجمعي الذي يختزن كل تجربة الأجيال السابقة ،،ويؤسس النظام القيمي والاخلاقي لأي مجتمع او يدخل عنصرا أساسيا في صياغة القيم والاخلاق ،،ذلك هو اللاوعي الجمعي باختصار اكثر من الشديد وبتبسيط ارجو ان لا يكون مخل ،،نعود الى موضوعنا،،،،
أزعم ان الانسان يتصرف وفق طبيعته الحقيقية في الحالات الحدية ،،عندما يكون في أوج قوته ،،ولا يخشى حساب او عقاب ،،ويتصرف كذلك وفق طبيعته الحقيقية عندما يكون في أقصى حالات ضعفه عندما يفقد القدرة على الاخفاء وتتحطم كل مكانزمات الاخفاء والمراوغة التي اكتسبها،،،،فما الذي أفصحت عنه الحرب في ليبيا. كحالة حدية في ما يخص قضية الاخلاق ؟
سوف انطلق من حادثة شهيرة تُوِجٓتْ بها الحرب على النظام السابق ،،،وهي ليست الوحيدة بل يمكن اعتبارها النموذج الأوضح والقاعدة المتبعة لسلوك المقاتلين طيلة فترة الحرب ،،ثمة حوادث اكثر فضاعة وأشد تنكيلا لكن يمكن اعتبار هذه الحادثة هي المتوسط الحسابي ،،كما انها حظيت بالتوثيق الكافي الذي يجعلها نموذجا،،ومثالا كافيا لشرح الفكرة ،، وهي حادثة القبض على معمر القذافي وكيف تم التصرف معه ،،بعيدا عن التشفي والتقول على على الله واعتبار ان ما حدث هو عقاب الهي ،،فتلك أمور الله اعلم بها ،،سوف ينصب اهتمامي على الحادثة ودلالاتها الاخلاقية وتأثيراتها على( اللاوعي الجمعي) على المدى البعيد ،،، بعيدا عن اي تأويل مسبق،،،فما الذي حدث ؟
؟ قبضت مجموعة مسلحة على العقيد معمر القذافي ويبدو انه كان مصاب بجراح. بليغة ،،اجتمعوا حوله وباشروا في ضربه وشتمه،،وفعلوا افعال اخرى شنيعة. ،،ثم نُقِلَ الى احدى المدن ووضع في ثلاجة لحوم. وجعلوا منه فرجة. وتزاحمت طوابير لمشاهدة جثة مُنَكَلْ بها ،،والخطوة الاخيرة تنم عن مباركة اجتماعية لهذه الفظاعات،،، ويبعد عن هذا السلوك عذر ردة الفعل الوقتية الغاضبة ويجعله سلوكا واعيا عن قصد ودراية ولابد ان من قاموا بذلك تحدثوا عنه امام ابنائهم بافتخار. ومباركة ،،،،وبهذ تم عمليا ترسيخ قيمة اخلاقية في وعي ولا وعي النشء هي كالتالي،،،
البطولة والشجاعة = اذا ظفرت بعدوك نكل به ومثل بجثته واجعله فرجة واغتصبه إن امكن،،،،
حسنا !!!
،،،،،سوف تندرج هذه المقولة الاخلاقية في (اللاوعي الجمعي ،) كحادثة تأسيسية ،للمجتمع الذي أقرها عن وعي ،،وستصبح قيمة مركزية في نظامه الاخلاقي ،،لانها حظيت بمباركة المجتمع ،،وفي استفتاء علني تمثل في الطوابير الطويلة لممارسة الفرجة المروعة،، كما باركته القيادات الروحية لذلك المجتمع ،،وهي كارثة اخلاقية لا شك ،،،ومفعولها طويل الامد ،،ولن يزيلها الوعظ والإرشاد ،،لان الوعظ مجرد كلام لا تؤيده التجربة العملية ،،،ولم يُؤسَسْ بقوة في اللاوعي الجمعي بل العكس هو الصحيح ما تم تأسيسه وترسيخه هو ،،العدوانية ،،والروح السادية،،،
وشارك في كرنفال الانتقام هذا مجموعة من الملتحين الذين ينطقون باسم الدين ، يمثلون قدوة ومثال يحتذى النشء
،،والآن ما الذي يقوله نفس الشيوخ على المنابر وخطب الجمعة والأعياد بخصوص معاملة الأسرى وكيف يتم التعامل معهم ،،
؟ سنجد خطابا مغايرا تماما لما قاموا به على ارض الواقع عندما سنحت لهم الفرصة،،هناك اخلاق كلامية خطاب نظري على تضاد وتناقض مطلق مع يُفعل عمليا ،،وهذا هو في تقديري سبب تضخم الخطاب الديني الاخلاقي ،،ووفرته وفي نفس الوقت عدم فعاليته ،،،ثمة تضخم في قول الفضيلة وتَقٓزُمْ في الاخلاق عمليا، ونحن اكثر من يتكلم عن الاخلاق والفضيلة وأكثر من يمارس الرذيلة بكل أنواعها ،،،، وهذه هي المشكلة التي يجب ان يَنصب عليها اهتمام علماء الاجتماع والنفس والعلوم السلوكية لمعرفة أسباب هذا الفصام ،،،ودوافعه لانه في تقديري يمثل الخلل البنوي الذي يسكن اعماق البنية الاخلاقية ،،للمجتمع ويحتاج الى علاج فوري كما نحتاج الى معالجة التشوه العميق الذي تسببت فيه مثل هذه الاحداث الشنيعة في وعي الأجيال القادمة ،،ويبدو ان ما حدث هو نتيجة دروس سابقة ،،من هذا النوع تعرض لها المجتمع الليبي منذ الحقبة العثماني التي اشتهرت بالخازوق وشتى انواع التعذيب والتنكيل ،،وتمتد التجارب التاريخية ذات الطابع السادي الى ما قبل الحقبة ،،لكن استطاع المؤرخون توثيق حقبة التراك وسجلت صفحات التاريخ ،،احداث مروعة إبان ذلك العصر واساليب قتل وتعذيب ،،غاية في القسوة والسادية ،،وارتبطت تلك الحقبة بمبرر ديني او ما أطلقو عليه. الخلافة العثمانية ،،مما زاد من حجم الفصام فقد تم تغطية. كل تلك الفظاعات بفتاوى دينية توجب طاعة الوالي التركي باعتباره ولي امر ،،مما افرغ الدين من محتواه الحقيقي وحوله الى مبرر لممارسة عكس ما تأمر به كل الرسالات السماوي،،كل تلك التجربة التاريخية القاسية بالاضافة الى حقبة الاستعمار الايطالي ،،ثم حفلات الشنق المعلنة التي قام بها النظام السابق في ثمانينات القرن الماضي وما رأفقها من سلوكيات سادية كضرب المشنوقين والتأرجح بجثثهم ،ومن قاموا بذلك هم ايضا عرض لمرض كامن قديم ،،واغلب المنخرطين في. الحرب الآن كأنو أطفال وشاهدو هذه الحفلات المريعة بعد الافطار في رمضان ذلك العام ،،
كل هذه التجارب عبر التاريخ صاغت (اللاوعي الجمعي الليبي ،،) وشكلته على هذه الصورة المشوهة ،،
،،،،والحرب الاخيرة كانت فرصة لانفلات الحقيقة الاخلاقية المروعة للشعب الليبي. وتعبيرا عن نظام اخلاق مشوه مريض ،يعتمد السادية والانتقام كأسلوب عيش ونمط وجود ،،،طبعا مع استثناءات قليلة طبعا، لكنها تثبت القاعدة ولا تنفيها. ،،،
الخلاصة ان المجتمع الليبي او قطاعات واسعة منه مريض اخلاقيا ويحتاج الى علاج وهي مهمة علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ،،وبالاستعانة بعلم النفس السلوكي والتحليليلي ،،،ولا يفيد فيه الوعاظ لان اغلبهم في لاوعيهم مسكونين بنظام اخلاقي يضاد ما ينطقون به ولا يلامون فهم ،،لا يستطيعون الافلات من ،،مقتضيات لا وعي جمعي مريض وهي مهمة شاقة وطويلة وتحتاج الى ،،اهتمام ودعم كبير ،،من قبل الدولة ،،لانها تمثل مشروع ،،قائم بحد ذاته ،،ربما نحن بحاجة الى ،،وزارة اخلاق مثل ما نحتاج الى وزارة الصحة،،،ولكن كيف ؟لا يمكن ادخال الجميع الى مصحات علاجية ،مع ان ذلك ليس عيبا في مثل هذه الحالات ولكنه غير ممكن عمليا ،،هنا يمكن الاستعانة بالفنون ،، خصوصا المسرح ،،السينما ،،التلفزيون ،،من الممكن ان تكون هذه الفنون اداة ناجعة ،،لعلاج المجتمع ،،اذا ارتقت بأساليبها وتعاونت مع ،،علم الاجتماع وعلم النفس ،،في اختيار نصوص جادة ومركزة ،،شريطة ان تبتعد عن المباشرة والسطحية ،،وتٌضَمِّنْ أعمالها رسائل الى اللاوعي الجمعي ،، تستهدف تفريغة من الشحنات السادية ،،التي خلفتها تجارب تاريخية مريرة وقاسية ،،،من الممكن ان تساهم هذه الفنون -اذا عثرت على رسالتها الحقيقية- في تغيير المجتمع الى الأفضل،، ربما لهذا السبب قيل يوما أعطني مسرحا اعطيك شعبا ،،