المهدي يوسف كاجيجي
قى ميدان “بورتا بيا ” بالعاصمة الايطالية روما، ينتصب تمثال لجندي ايطالى، فى حالة هجوم، بيده اليمني بندقية واليسرى بوق، وعلى رأسه قبعة تعلوها ريشة. وعلى قاعدة التمثال ، حفرت كلمات تخليدا للرجال الذين خاضوا حروبًا من اجل ايطاليا، حققوا فيها الكثير من الانتصارات . وعلى القاعدة الرخامية نحتت لوحة ظهر فيها ، بئر ماء تقليدي ليبي بمكوناته البسيطة، الحبل الذى نطلق عليهه “الرشا” وهو يصنع من ليف النخيل، معلق على “الجرارة” متصلا بالدلو الذى يتم بواسطته استخراج المياه، وحول البئر جنود فى حالة هجوم بالمدافع الرشاشة والبنادق والمسدسات، وظهر في اللوحة جثث للجنود القتلي والجرحى. وكتب اسفل اللوحة (شارع الشط، 23 اكتوبر 1911 ) ” وهى المعركة التى اشتهرت باسم “الهاني”، والتى تسببت فى اكبر عدد من القتلى بين جنود العدو، خلال الحرب الليبية الإيطالية.وكانت بداية المقاومة من قبل شعب اعزل، وقف مدافعا عن حقه فى الحياة، امام حلم ملعون اسمه اعادة بناء الامبراطورية الرومانية، غزو خطط له ولسنوات وتحول الى حرب إبادة استيطانية قذرة، واستعمار عنصري بغيض، حقبة اطلق عليها الليبيون ” الشر ” .
الحلم الإيطالي الملعون
الحلم لازال قائمًا، وتمثال العسكري ابو ريشة لا زال منتصبا فى “بورتا بيا ” على اول جادة ( Via Nomentana ) يتلقى باقات الورود، من قبل زواره على مدار السنة. ومن غرائب الصدف، ان يتواجد مبنى السفارة الليبية فى نفس الشارع ويقع فى الرقم 365، والمندوبية الليبية لدى المنظمة العالمية للتغذية للزراعة ” الفاو” فى رقم 13، وأنا اجزم هنا أن العاملين في هذه المكاتب؛ يمرون على المكان منذ اكثر من سبعون عاما، كشاهد ماشفش حاجة، على راى مسرحية عادل امام المشهورة..
الحلم لازال قائمًا، حتي وبعد أن قام رئيس الوزراء الايطالى الأسبق “بيرلسكوني” بتقبيل يد العقيد معمر على مشهد مفتوح على العالم فى شكل اعتذار، على ما فعلته ايطاليا بشعبنا، من تهجير ونفي وإبادة. وتقديم تعويضات فى شكل تطوير للبنية التحتية للطريق الساحلى الذى يربط ما بين شرق ليبيا وغربها. والحقيقة في كل هذه المسرحية الهزلية. كانت شراء الاستثمارات الليبية لشركات مفلسة يملكها بيرسكونى. ومن لحيته افتله.
الحلم لازال قائما باستعادة “الشاطئ الرابع” Quarta Sponda وهو الاسم الذى يطلقه الايطاليون، منذ الحقبة الرومانية على ليبيا، والفاشيستيون فى إيطاليًا لن ينسوا ذلك، بدليل وإنه وعند أول زيارة إلى ليبيا والتى قامت بها رئيسة الوزراء الإيطالية اليمنية، وهو اسم تجميلي ” للفاشيستية” كانت المفاجأة هو اصطحابها لياور عسكرى على راسه ريشة، تذكيرا بالذي جري، وإلا فما هو التفسير لهذا المشهد المستفز، لعواطف الاحفاد من الذين فقدوا اجدادهم في الحرب الليبية الإيطالية الغير متكافئة.
الشر
تذكرت ذلك وانا اقراء كتاب ” الإبادة الجماعية فى ليبيا ـ الشر، تاريخ استعماري مخفى ” ، الكتاب صدر باللغة الإنجليزية ومن تأليف الأستاذ الدكتور “على عبداللطيف حميدة” وترجمه للعربية الاستاذ الدكتور “محمد زاهي بشير المغيربي ” وحائز على جائزة الجمعية الأمريكية العلمية لعام 2022. عمل وثائقى فريد، أستغرق كاتبه اكثر من عشرين عاما، للتحضير والإعداد والكتابة ،وشارك في تقديم الدعم والاستشارة له العشرات من العلماء والباحثين، محاولة جادة، الهدف منها أختراق جدار الصمت والتجاهل، الذى فرضته الحكومات الايطالية بل والعالم كله على حرب الإبادة التى تعرض لها الشعب الليبي ، والمطالبة بتقديم الاعتراف والاعتذار والتعويض لما جري حتي لا يتكرر الآمر . كتاب أعتقد ولا ابالغ عندما اقول انه وثيقة دامغة تكشف النقاب عن حقبة شريرة وصفها المولف بقوله: [ لقد أقتلع الليبيون بالقوة عن ديارهم،وأجبروا على السير عبر مسالك شاسعة ووعرة من الصحارى والجبال وحُصروا خلف الأسلاك الشائكة في 16 معتقلا ، هذه قصة أفلتت من أي مساءلة جادة للجناة ] .إنها حالة من التآمر الجماعى لطمس الحقيقة وتشكيل “حالة جماعية لفقدان الذاكرة” ،الهدف منها إخفاء كل ما جرى من جرائم.
إنها دعوة للأجيال الليبية الشابة, لقراءة هذا الكتاب، فهو تسجيل لما جرى, واستشراف للمستقبل لما هو قادم، ليدرك الجميع, الثمن الفادح الذي دفعه جيل الأجداد, من أجل الحفاظ على الميراث الوطني ” ليبيا ” وتوريثه، والتذكير بأن التاريح يعيد نفسه. فإذا نسى الليبيون ما جري، فإن الجار الايطالى لا يزال يحلم، وسيظل يحلم باستعادة الشاطئ الرابع لانها معركة وجود،حتى يرث الله الأرض ومن عليها.