الخطأ الطبي في القانون الجنائي

الخطأ الطبي في القانون الجنائي

الحقوقي :: أحمد خميس  

   يعتبر الخطأ الطبي من أهم الموضوعات في مجال مسؤولية الطبيب الجنائية لأنه يكون الركن المعنوي في أغلب الجرائم الطبية ولذا لابد من تعريفه وتتبع تطوره وتحديد صوره المختلفة وذلك على النحو التالي :

تعريف الخطأ بوجة عام :

اقترح الفقهاء تعاريف متعددة للخطأ ونختار منها تعريفين اثنين أولهما عرفه الأستاذ استارك على أنه ( انحراف في  السلوك لا يقع من إنسان يقظ وجد في نفس الظروف التي أحاطت بالمسؤول ) والآخر عرفه الأستاذ سافاتيه ( هو الإخلال بواجب كان من إمكان من أخل به أن يدركه ويراعيه)

وبناء على ذلك يكون الخطأ الطبي هو :(( تقصير في مسلك الطبيب لا يقع من طبيب يقظ وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول ))

تطور الخطأ الطبي :

لقد واجه قرار مبدأ مسؤولية الأطباء كثيرا من الاعتراضات والصعاب بحجة أن إخضاع الطبيب الحاصل على الدبلوم لأية رقابة في ممارسة مهنته يقلل من شأن شهادته العلمية بل ويعدم قيمتها كما أنه يضر بسمعته المهنية ويعطل مزاولتها ويمنع بالضرورة تقدمها ، فالطبيب لا يسأل عن أخطائه إلا أمام ضميره وأمام الرأي العام كما إن إقرار المسؤولية الطبية يجعل الأطباء يحجمون عن القيام بعملهم وهناك شعور لدى الأطباء بأن مهنة الطب يجب حمايتها من التعسف الذي يصاحب دعاوى التعويض التي ترفع على الأطباء، ولقد أثرت الاعتراضات السابقة على أحكام القضاء حيث بقيت مسؤولية الأطباء في بادي الأمر أضيق نطاقا من مسؤولية غيرهم فلم يتعرض القضاء لأخطائهم الفنية ثم تقدم القضاء خطوة أخرى وقام بمحاسبة الأطباء عن الخطأ الجسيم دون اليسير أو الطفيف وظل الخطأ الجسيم أساسا للمسؤولية الطبية في نظر الفقه والقضاء إلى أن ظهرت تفرقة أخرى بين الخطأ المادي والخطأ الفني وأخيراً قرر الفقه والقضاء بأن مسؤولية الأطباء الجنائية تخضع للقواعد العامة  م 63ع.م 166مدني.

  ونعالج فيما يلي التفرقة بين الخطأ المادى والخطأ الفني أو المهني.

 ثم نتطرق لمفهوم الخطأ وفقا للقواعد العامة المقررة في قانون العقوبات الليبي

وأخيراً نتعرض للجوانب المختلفة للخطأ الطبي.

أولا- الخطأ المادي والخطأ الفني (( المهني ))

هذه التفرقة تعتبر من صنع القضاء الفرنسي ومفادها أن هناك نوعين من القواعد وهما :

1 –النوع الأول يحكم أصول المهن الفنية ويحدد واجبات أصحابها كالأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والخطأ في تطبيق هذه القواعد يعتبر خطأ فنيا أو مهنيا .

2 – أما النوع الثاني من هذه القواعد فيحكم الواجبات العامة للحيطة والحذر المفروضة على الكافة والخطأ في تطبيق هذا النوع من القواعد يعتبر خطأً ماديا وقد انتقلت هذه التفرقة إلى ميدان المسؤولية الطبية وقرر القضاء مساءلة الطبيب عن الخطأ المادي دون الخطأ المهني (( الفني )) إلا إذا كان هذا الخطأ جسيما.

و من أمثلة الخطأ الفني أو المهني : الخطأ في التشخيص أما الخطأ المادي أن يجري الطبيب عملية جراحية وهو سكران، وقد ساق أصحاب هذه التفرقة عده حجج تبريرا لها منها أن الطبيب لا يستطيع أن يقوم بواجبه إلا في جو من الحرية التامة وأن تهديده بالمسؤولية قد يدفعه إلى اتباع سياسة علاجية عقيمة قد تؤدي إلى عرقلته في القيام بواجبه خوفا من أن يتعرض لمسؤولية مدنية أو جنائية.

غير أن هذه التفرقة بين الخطأ المادي والمهني لم يكتب لها البقاء

بسبب الانتقادات التي تعرضت لها وفيما يلي أهمها :

• أنه يصعب في كثير من الأحيان التفرقة بين الخطأ المادي والمهني (( الفني )) فإذا كان يسهل في بعض الأحيان أن نقول إن الطبيب ارتكب خطأ مادياً كما لو قام بإجراء عملية جراحية وهو سكران، فإن الأمر أدق في أحيان أخرى كما لو أغفل الطبيب الأمر بنقل المريض إلى المستشفى في الوقت المناسب، محكمة عليا21/مايو/1974مجلة المحكمة العليا س11ع1ص134..

• إن هذه التفرقة لا تستند إلى القانون لا في نصه ولا في معناه فقد جرى القضاء من أمد بعيد على أن الخطأ الذي يستوجب المسؤولية الجنائية بمقتضى المادة 63/3 عقوبات لا يختلف في أي عنصر من عناصره عن الخطأ الذي يستوجب المسؤولية المدنية بمقتضى م 166 مدني، وقد جاء هذا النص عاماً غير مفرق بين أنواع الخطأ ولا بين الفنيين وغيرهم وعلى إثر ذلك قرر القضاء أن مسؤولية الطبيب الجنائية تخضع للقواعد العامة متى ثبت وجود خطأ مهما كان نوعه سواء كان خطأ فنياً أو غير فني – جسيماً أو يسيراً .

الخطأ الجنائي وفقاً للقواعد العامة في قانون العقوبات الليبي :

لقد أخذ المشرع الليبي بالخطأ المهني كأساس للمسؤولية الطبية في م23 من قانون المسؤولية الطبية، أما القضاء الليبي فقد قرر فيما يتعلق بمسؤولية الطبيب المهنية بأن هذه المسؤولية تخضع للقواعد العامة سواء كان خطأ الطبيب فنيا أو غير فني {محكمة بنغازي الابتدائية، دائرة الجنح والمخالفات المستأنفة 17/11/1986م،مجلة المحامي ع17ص116للخطأ الجنائي في القواعد العامة المقررة في قانون العقوبات، ولقد سبق أن قلنا إن السلوك الآثم يفترض ارتكاب خطأ بالمعنى الواسع سواء العمدي أو غير العمدي، والسلوك الآثم هو الذي يشكل الركن المعنوي للجريمة غير العمدية وهو الذي يحدد في نفس الوقت نوع العلاقة بين إرادة الجاني وجريمته ، المحكمة العليا 4/6/1974 مجلة المحكمة العليا س11ع1ص192حيث قالت ( من المقرر أن إباحة عمل الطبيب مشروط بأن يكون ما يجريه مطابقا للأصول العلمية المقررة ،فإذا فرط في اتباع هذه الأصول أو خالفها حقت عليه المسؤولية الجنائية بحسب تعمده الفعل ونتيجته أو تقصيره وعدم تحرزه في أداء عمله ولا يهم بعد ذلك أن يكون الخطأ المعني جسيما أو غير جسيم) ويطلق وصف الخطأ الجنائي على الخطأ غير العمدي الذي يكون الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية ويتمثل هذا الخطأ في إحداث نتيجة ضارة لم تتجه إليها إرادة الفاعل ولقد أطلق المشرع الليبي على الخطأ غير العمدي عدة تعبيرات هي الإهمال والطيش وعدم الدراية وعدم مراعاة القوانين والأنظمة واللوائح والأوامر, مادة63/3 عقوبات .

ولقد اعتبر المشرع كل صورة من صور الخطأ المشار إليها في هذه المادة قائمة بذاتها

يترتب عليها مسؤولية الفاعل ولو لم يقع منه خطأ آخر، وتحديد صور الخطأ على الوجه السابق ورد على سبيل المثال لا الحصر وفقاً لحكم المحكمة العليا الصادر في 7/11/1964 م – مجلة المحكمة العليا السنة 1 – العدد 4 – صفحة 37 وهناك بعض الفقهاء يذهبون خلافاً لذلك أي أن الخطأ المشار إليه في المادة 63 /3 ورد على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال ونتحدث فيما يلي عن صور الخطأ التي أشارت إليها المادة 63/3 على أساس أن خطأ الطبيب لا يخرج منها .

ثانـيا : صـور الخطأ :

1 / الإهمال :

مرادف لعدم الانتباه وهو ترك أو عدم اتخاذ الاحتياط الذي تقتضيه الحيطة والحذر ولو قام به الفاعل لتجنب وقوع الحادث كصاحب المصنع الذي لا يقوم بتغطية الأجزاء الخطرة من الآلات بأجهزة الوقاية من الخطر والصيدلي الذي يصرف خطأ دواء ساما وكذلك القابلة التي تهمل في تقديم العناية اللازمة للوليد فيموت نتيجة ذلك (المحكمة العليا 4/6/1974)السابق الإشاره إليه، وكذلك محكمة بنغازي الابتدائية دائرة الجنح والمخالفات بجلسة17/ 11/86 م مجلة المحامي 17ص116والطبيب الذي يستعمل آلة الجفت في الولادة دون حيطة وحذر مما نتج عنه إصابة الطفل المولود.

2/ الطيش :

 هو الخطأ الذي لا يقع من شخص متبصر ومدرك للعواقب كالقيادة بحالة تعرض حياة الأشخاص والأموال للخطر أو القيادة بسرعة تزيد عن الحد المقرر قانونا وإجراء عملية جراحية بداخل مقلة العين دون إجراء الفحوص اللازمة للتأكد من عدم وجود عدوى ميكروبية تسبح على سطح العين مما قد يترتب عليه التهاب داخل العين وربما فقد إبصارها أو أن يقوم الطبيب بعلاج المريض وهو يعلم أن حالته لا تساعد على التركيز الشديد والقيام بعمله على أكمل وجه وهكذا نرى أن الطيش هو خطأ في تقدير الخطر الذي يقدم عليه الفاعل.

3 / عدم الدراية ( الرعونة ) :

هو اضطلاع شخص بعمل تنقصه المعرفة التامة أو القدرة اللازمة للقيام به فهي تنطوي على جهل الفاعل أو الجاني أو قصوره في العمل الذي قام به سواء كان ذلك العمل الذي قام به ماديا أو أدبيا، ويدخل في هذه الطائفة الأخطاء المهنية التي يرتكبها الأطباء والصيادلة وأصحاب المهن الأخرى , متى كانت ناتجة عن إخلال بقواعد المهنة وتكشف على جهل الفاعل أو قصوره بأصول المهنة, وتطبيقا لذلك حكم بأن الشخص الذي يتدخل في عملية توليد دون أن يكون مرخصا له بمزاولة مهنة الطب ويتسبب في قتل المجني عليها يرتكب الجريمتين المنصوص عليهما في المواد 251 ,377 من قانون العقوبات ,محكمة زليتن الجزئية 6/6/1959 م قضاء المحكمة العليا,القضاء الجنائي جزء 2ص407

4 / عدم مراعاة القوانين أو اللوائح أو الأوامر أو الأنظمة :

أ- عدم مراعاة القوانين :

يعتبر القانون مصدرا للتجريم والعقاب وبناء على ذلك لا يجوز تجريم فعل أو امتناع أو تقرير عقوبة لهما إلا بناء على نص صادر من السلطة التشريعية م1 ع وعلى ذلك فإن انتهاك القوانين المتعلقة بالتجريم والعقاب تشكل خطأ ويترتب بالتالي المسؤولية الجنائية وبناء على ذلك فإن مخالفة قانون المسؤولية الطبية رقم 17 لسنة 86 م أو انتهاك القانون الصحي رقم 106 لسنة 73 م يشكل خطأ يستوجب المساءلة الجنائية.

ب/ عدم مراعاة اللوائح :

يجب أن تفهم اللوائح بالمعنى الواسع فهي تشمل اللوائح التي تصدرها السلطة الإدارية غير أنه يشترط أن تكون اللائحة مشروعة بمعنى أن تكون قد استوفت الشروط الموضوعية والشكلية لإصدارها وأهم هذه الشروط أن تكون اللائحة صدرت عن الجهة المختصة بإصداراها قانونا وإلا تعرضت للدفع بعدم الشرعية عند تطبيقها, غير أن قبول هذا الدفع لا يترتب عليه بالضرورة الحكم ببراءة المتهم ذلك أن عدم مراعاة لائحة غير مشروعة قد يشكل خطأ من نوع آخر هو عدم الانتباه أو عدم الاحتياط انظر إلى اللائحة التنفيذية للقانون الصحي الصادر بموجب قرار 654 لسنة 1975 م ويعتبر الشخص بمجرد مخالفة لائحة من اللوائح في حكم المخطئ إذا وقعت منه حادثة وهو مرتكب لهذه المخالفة ، ومخالفة الطبيب للوائح تشكل خطأ وأمثلة ذلك عدم تبليغه عن واقعة الوفاة أو الولادة التي أشرف عليها م 18 فقرة2 -م34 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 36 لسنة 65 م في شأن الأحوال المدنية وتجدر الإشارة إلى أن مخالفة اللوائح معاقب عليها بنص المادة 507 عقوبات .

ج/ عدم مراعاة الأوامر والأنظمة :

تشكل مخالفة الأوامر والأنظمة صورة من صور الخطأ المنصوص عليها بالمادة 63 /3ع ويستوي أن تكون تلك الأوامر كتابية أو شفهية ولكنه يشترط أن تكون الأوامر مشروعة ولا تكتسب هذه الصفة إلا إذا كانت صادرة ممن يملك إصدارها قانونا ,وأخيرا فإن عدم مراعاة الأنظمة التي تضعها السلطة الإدارية في حفظ النظام والأمن يرتب المسؤولية الجنائية إذا نتجت عنه نتائج ضارة.

والخلاصة :

إن عدم اتباع ما تقضي به القوانين واللوائح والأوامر والأنظمة يتوفر به عنصر الخطأ اللازم لتكوين الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية سواء ارتكب من طبيب أو غيره.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :