- شيتُور فيرُوز/ كاتبة جزائرية
التَّربيةُ بتأنيبِ الضَّميرِ هيَ جلدٌ للذَّاتِ ، و إِرهاقٌ للعقلِ و الفِكر ، و خنقٌ للرُّوحِ الإِبداعيَّة في النَّاشئة ، و الخُطَبُ الدينيَّة ، المبنيَّة على منهجِ التَّخويفِ و التَّرهيب ، هيَ دعوةٌ صارخةٌ ، لنهجِ القَطيع ، دُونَ تدبُّر و تبصُّر ، بنبرةِ العِتاب ، و التَّزمُّتِ ، في انغلاق تامٍّ عنِ الحَداثة ، و لُغةِ العَصر ، و مُخاطَبةِ الشَّبابِ ، مُزامنةً معَ ما يحدثُ في واقعِهِم ، و يُعايشُونهُ ، دُونَ اللُّجُوءِ إلى ما كانَ يُعايشهُ السَّلَف ، فالوقتُ غيرَ وقتهِم ، و الزَّمانُ غيرُ زمانهِم ، و الجيلُ تمامًا غيرَ جيلهِم ، فالواحدُ فيهِم زمانَا ، لا يملكُ من مُتعِ العيشِ إلَّا القليل ، و لا مِن مُغرياتِ الدُّنيا إلا اليَسير ، فلا يملكُ إلَّا أن يستقيمَ ، فليسَ لديهِ من المُغرياتِ و المُلهياتِ ما يُقاومُه ! ، فمصادرُ المعلُوماتِ قليلة ، نراهُ يُقيمُ قيمةً للمعلُومة ، يبحثُ ، يُسافرُ و يَجدُّ لتحصيلِها ، فتترسَّخُ في ذِهنهِ ، و يُجدُّ بذلكَ في تدوينِها ، تصنيفِها ، ليعُودَ بها إلى مُجتمعهِ ليُجِدَّ بعدَ ذلكَ في نشرِها ؛ و المُلهياتُ نادِرة قلَّمَا تعترِضُ طريقهُ ، في وسائلِ الإِعلامِ التي تُجِدُّ هِيَ بِدورِها في اقتناء المُفيدِ ، النَّافعِ و الهادِفِ مِن كُلِّ مُحتوى _حتَّى مِنَ الرُّسُومِ المُتحرِّكَة_ ، التي كانَت تحملُ في طيَّاتِها دُرُوسًا و عِبَر ، في واقعٍ اكتنفه الحياءُ في القولِ و المَلبس .
كُلُّ شيءٍ تغيَّرَ اليَوم ، لكنَّ الخِطابَ الدِينيّ بقيَ على حالهِ مُنذُ زَمن ، نفسُ لهجةِ الخُطَبِ في المَنابِر ، ، و الواقعُ لا يشهدُ إلَّا التَّراجُعَ يومًا بعدَ يوم ، و عددُ المُلحِدِينَ و المِثليِّينَ يزدادُ يومًا بعدَ يوم ، ظاهرةُ المُتحوِّلاتِ و المُتحوِّلُونَ الجِنسيُّونَ اجتاحت البِلاد العربيَّة ، ظواهرُ الاغتصاب و الجناياتِ ترتفِعُ لتُفجِّرَ الكَبتَ و التَّمرُّد المُجتَمَعي هُنَا و هُنَاك ؟! ، صارَ أكثرُ من يتمرَّدُ على الدِّينِ همُ العرَبُ أَنفسُهُم ! فلماذَا يا تُرَى ؟ ما الأَسبابُ التي دَفعَت خاصَّةً فِئَةَ الشَّبابِ لِذلك ؟ هاتهِ الفِئةُ التي مِنَ المُفترَضِ أَن تكُونَ القُوَّةَ الدَّافِعةَ و حجرَ الأَساسِ في بناءِ المُجتمعِ العربيِّ المُسلم ، نرَى فئةَ الشَّباب صارت المرتعَ الخِصب للأفكارِ الدَّخيلة على مُجتمعاتِنا العربيَّة ، ذلكَ أنَّها وجدَت التُّربة المُلائِمة لتنبُتَ و تكبُر في كنفِ التَّعصُّب و الخِطاب الدِّيني المُتزمِّت ، و التَّربية القاسيَة التي هيَ كجلدٍ مُستمرٍّ للذات، و في غيابٍ تامٍّ للُغةِ الحِوار و الاحتواء سواءًا مِنَ الأُسرة أو المُجتمَع .
يُعتبرُ الخِطابُ الدينيُّ – في نظري – هُو مرآةُ المُجتمَع . فنرى منَ الضَّرُورةِ بمكَان تجدُّدُهُ ، و مُواكبتهُ للتَّغييراتِ الطَّارئة على هذا الأخير ، دعوةً منهُ إلى مُخاطبةِ النَّاسِ في جميعِ توجُّهاتهِم و مشاربهم ، و جلبهِم إلى طاولةِ الحِوار ، دُونَ مُغالبةٍ لهذا على ذاك ، أو التَّحيُّز لفئةٍ على أُخرى ، فالدِّينُ بريءٌ من إِطلاقِ الأَحكامِ على الأَشخاصِ و الأَماكِن ، في دعوةٍ إلى الحوارِ البنَّاءِ و الفاعِل ، دُونَ تغليطِ الرَّأيِ الآخر ، أو التَّقليلِ منهُ ، أو مُحاولةِ الظُّهُورِ بمظهرِ الوصيِّ عليه ! ؛ كما قالَ تعالى في مُحكمِ تنزيلِه ” …لكُم دينُكُم و ليَ ديني.. ” ، فالاختلاف لا يُفسدُ للوُدِّ قضيَّة .
الخِطابُ الدِّيني يُكرِّرُ نفسَهُ كُلَّ مرَّة ، يتوعَّدُ ، و يُصدرُ أحكامًا ، يُصنِّفُ في قوائِمَ منعزلة ، بنبرةٍ يسُودُها التَّخويفُ و التَّهويل ! ..يُربكُ و يُشتِّت ..يجلُدُ الذات..في كُلِّ مرَّة ..فنخرُجُ من ذلكَ اللِّقاءِ مُنهكِين..مُترقِّبين..يسُودُ أَنفُسَنا الهلَع..على شيءٍ لم نرتكبهُ ..لكن خُيِّلَ إِلينَا مِن كثرةِ الفزعِ أنَّنَا فعلنَا !
الخِطابُ الدِّيني في عُزلةٍ عنِ العِلمِ و التَّدبُّر ..يقتصرُ دورهُ في السَّاحة العربيَّة ، على إِعطاءِ الأَوامِر ، و جلدِ المُخطئين ..و مُتابعةِ المُذنبين..لتذكيرهِم بأخطائِهِم كُلَّ مرَّة .. .عن أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله -تعالى، فيغفر لهم
رواه مسلم .
الخِطابُ الدِينيّ اليومَ حالهُ حالَ الأُمِّ التي أَتاها ابنها باكيَا شاكيًا ..على شيءٍ فعلهُ ..يشكُو لهَا نفسهُ ..و قِلَّةَ حيلتِها ، فتقُومُ بتأنيبهِ و لومهِ..زيادةً على لومهِ لنفسِه..فيدخلُ في دوَّامةِ تأنيبِ و جلدِ الذَّات ..دُونَ حِكمةٍ و دِرايةٍ منها بمرحلتهِ..و درجةِ وعيهِ..فتُعسِّرُ عليهِ التَّصالُحَ مع ذاتهِ ..في تزمُّتٍ..و غيابٍ للمُرُونةِ بينَها و بينهُ ..فتُنشئُ للمُجتمعِ فردًا غيرَ مُتصالحٍ معَ ذاتهِ..ليُصبحَ بعدَ ذلك ..معَ توالي النَّكباتِ عليه..ألدَّ أعداءِ نفسهِ و مُجتمعه..و يُصبحُ كالسَّوطِ الذي يجلدُ نفسهُ و غيره..لأنَّ هذا ما نشأَ عليه..فيبتعدُ عن الطُّمأنينة التي هيَ مكسبُ القُلُوب الخيِّرة ، و لَو أنَّها احتوته ، و تدارسَت معهٌ حيثيَّاتِ فعلهِ، فنفسُ السَّيئَةِ عندَ كُلِّ الأَشخاص ، لا تُفعلُ دائِمًا لنفسِ الأسباب ! ” ..إلا من أُكرهَ و قلبهُ مطمئنٌ بالإيمان ..” سورة النَّحل ، فالسَّيئةُ لا تُحكمُ على ظاهرِها بل وجبَ النَّظرُ في بواطِنِها .
عن رسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه و سلَّم قال : قالَ اللهُ عزَّ و جلّ ” أنا عندَ ظنِّي عبدي بي ، و أنا معهُ حيثُ يذكرُني ، و اللهِ ، للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ مِن أحدكُم يجدُ ضالَّتهُ بالفلاةٍ ، و مَن تقرَّبَ إِليَّ شِبرًا ، تقرَّبتُ إليهِ ذِراعًا ، و من تقرَّبَ إِليَّ ذِراعُا ، تقرَّبتُ إليهِ باعًا ، و إِذا أقبلَ إليَّ يمشي ، أقبلتُ إليهِ هرولة .” ! ..يا اللَه ..الخطابُ الدِّيني على هيئتهِ في الأحاديثِ القُدُسيَّة و النَّبويَّة يدعُو للبِشرِ و التَّفاؤُل ..كما قالَ أيضًا ” ..سبِقَت رحمتِي غضَبي ..” في حديثٍ قُدُسيّ آخر “..ومَن لقيَني بقُرابِ الأَرضِ خطيئة ، ثُمَّ لا يُشركُ بي شيئًا ، لقيتهُ بمِثلِها مَغفرة ” ..
إلى خُطَّابِ المنابر ، بشِّرُو و لا تُنفِّرُو ، يسِّرُو و لا تُعسِّرُو ، فكمَا ذُكرَ في حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول في بيتي هذا : اللَّهُم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاُشقُق عليه ، ومن وُليَ من أمر أمَّتي شيئاً فرفق بهم فاُرفُق به ، رواه مسلم . جدِّدُو في خُطبكُم كُلَّ مرَّة ، وواكبُوها على لُغةِ العَصر ، لُغةُ الحدَاثة ، استشهدوا بقصصٍ من الواقع ، فالقصَّة أقوى ما يُمكنُ أن يُستشهدَ به ، وواقعُنا الحاليّ لا يخلُو من ذلك ؛ فجميلٌ أن نستشهدَ بتاريخِ أَسلافنَا و أجدادِنا ، لكنَّهُم في الواقعِ خُلقُو في زمانٍ غيرِ زمانِنا ..حقيقةٌ واقعة ..شئنَا ذلكَ أم أبينَا..فلُغةُ عصرنَا اليوم..هيَ التِّكنُولُوجيا.. و بامتياز..و معَ تسارُعِ وتيرةِ الحدَاثة و العَصرنة يومًا بعدَ يوم..صارَ منَ الضَّرُورةِ بمكَان ..تجديدُ الخِطابِ الدِّينيّ لمُواكبتهِ التَّطلُّعات و مُجرياتِ الأحداث .
معَ تطوُّرٍ العُلُومِ – في يومِنا هذا – استوجب على الخِطاب الدِّينيّ.. الاستشهاد بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم ..في خُطبهِ..و عدم حصرهِ ذلكَ على المُلتقيات و المُؤتمرات ، في دعوةٍ للنَّاسِ إلى التدبُّرِ و التَّفكيرِ في الخلائقِ و الموجُودات من حولنَا بعينِ التَّبصُّرِ و الحِكمة ، “..أفلا يتدَّبرُون ..أم على قُلُوبٍ أقفالُها ..” .
الدِّينُ ليسَ السَّيرُ مُغمضَ العينين بتعليماتٍ و توجيهاتٍ تجهلُ كُنههَا..نعَم ..نحنُ مدينُونَ لله أن جعلَنا مُسلمين..قالت الأعرابُ آمنَّا ..قُل لم تُومنُو ..و لكن قُولُو أَسلمنَا ..و لمَّا يدخُلِ الإيمانُ في قُلُوبكُم ..” ؛ اللهُ جعلنَا مُسلمين ..و جعلَ لنَا الإختيارَ في تحقيقِ الإيمانِ في قُلُوبنا من عدمهِ ! ..الإيمانُ أعمقُ مِمَّا نتصوَّر ..مِنَ الإيمانِ أن لا نظلمَ ..منَ الإيمان ..أن لا نكذب..من الإيمانِ أن نُحينَ إلى أنفُسنا و غيرنَا ” و ما تُقدِّمُو لأنفُسكُم من خيرٍ تجدُوهُ عندَ اللَّه هو خيرا..” ..و إلَّا فلمَ نجدُ المُسلمينَ اليوم يتشاحنُونَ فيما بينهُم بأسبابٍ و بدُونها ، المُسلمُ يأكُلُ حقَّ المُسلم ، يغتابُه ، يرتشِيه ، يسرقُه ، يُغرِّرُ به ..و يصلُ بهِ إِلى حدِّ إِستباحةِ دمهِ ! ..الإسلامُ حاضرٌ بينَنَا ..لكنَّ الإيمانَ غابَ عنِ القُلُوب و فتُرَت شوكتُه !
يُعتبُ على الخطابِ الدِّينيّ..نفسُ العِبارات..نفسُ الجُمَل ..نفسُ الخِطابة كُلَّ مرَّة ..نفسُ الحُجج..و العلمُ في تطوُّرٍ و اتساع ..و الخِطاب الدِّيني لا يبرحُ مكانهُ عاكفًا ..دُونَ سعيٍ للتَّجديد و مُسايرة مُتغيِّرات عصرِنا الحالي .
العالمُ اليَوم يشهدُ موجةً منَ العُنف و التَّطرُّف ، فوجبَ إِذ ذاكَ إِعادةُ النَّظرِ في ما مِن شأنهِ تعديلُ المسَار و الحُؤُول دُونَ تفاقُمِ الوضع ؛ كانَ مِن أوائلِ الدَّاعمينَ للرَّسُولِ صلَّى اللهُ عليه و سلَّم هُم فئةُ الشَّباب ، فالشَّباب في كُلّ أُمَّةٍ هُمُ الوقودُ المُحرِّكُ لها و الباعثُ لرُوحِ الحضارةِ فيها ، فوجبَ إِيلاءُ الإِهتمامِ أكثَر فأكثر إلى هاتهِ الفِئة ، و لأنَّ الشَّباب أكثرُ حماسةً من غيره ، فهيَ الشَّريحةُ الأكثرُ إستهدافا من طرفِ الفِكر و التيَّار المُتطرِّف ، فمن أجلِ ذلك ، طوَّعَت هاتهِ الجماعات خِطابهُم و و شكَّلُوه ، ليُوافق الشَّابَّ في فهمهِ و ذوقهِ ، إهتماماتهِ ، شخصيَّتهِ و واقعهِ ، و مارسُو كُلّ ذلك بإستعمال أهمِّ مُخترعاتِ العصرِ الحديث ” شبكاتُ التَّواصُل الإجتماعي ” و خاصَّةً منها الفايسبوك ، فقد إِستطاعت قياداتُ هذا التَّيَّار الإِستفادة تمامَها من الثَّورة الإعلاميَّة الحاصلة على السَّاحة ، فتمكَّنت بذلك الجماعات الإرهابيًّة من نشرِ فكرها المُتطرِّف فانتشرَ كالنَّارِ في الهشيم ، لمُوافقتهِ آذانًا صاغية و بيئةُ خِصبة .
على ضوءِ ما هُو حاصلٌ اليوم ، ثبُتَ فشَلُ الخِطاب الدِّيني التَّقليدي في التَّأثير المرجُوّ على الشَّاب العربي المُسلم اليوم ، فيظهرُ إِذ ذاكَ الخطابُ مُفلسًا ، هزيلًا ، إِستنفذَ كُلَّ أوراقهِ ، فأصبحَ يُكرِّرُ نفسهُ كُلَّ مرَّة ؛ تشكيلةُ الخطاب تُغيِّبُ مُستجدَّاتِ الواقع ، و تضعُ الشَّاب العربيّ عُرضةً لقصفٍ إيديُولُوجيّ يُواكبُ واقعَ الشَّاب النَّفسي ، الذِّهنيّ ، الذَّوقي و الإِجتماعيّ .
دينُنا الإسلاميُّ فوقَ كُلّ تصوُّر ، بمبادئهِ المُعتدلة ، الوسطيَّة السَّمحة ، و بأخلاقهِ الإِنسانيَّة الرَّاقية و أفكارهِ الحضاريَّة التي تعكسُ القُدرة الكبيرة على التَّعايُش مع الآخر ، و مُعالجة مُشكلات الوقت الرَّاهن ، بحكمةٍ بالغة و بصيرةٍ نافذة .
ظاهرةُ التَّطرُّف الفِكري و الدِّيني اليوم أشبهُ بالخلايَا السَّرطانيَّة التي لا تفتأُ تنتشرُ ، فلا يُخيَّلُ إِلينَا ، أنَّها ستتلاشى دُونَ تكاتُفِ الجُهُود ، و إِعادةِ النَّظرِ في أسبابها ، دراستِها ، و إِيجادِ الحُلُولِ لها . فما هي آفاقُ هاتهِ الأزمة في واقعِ المُجتمعاتِ العربيَّة ؟ و ما هيَ تداعياتُها ؟
ينظرُ الفردُ العربيّ على أنَّ الدِّينَ كيانٌ مُنغلقٌ ، كُلٌّ لا يتجزَّأ ، أن نأخُذَهُ كُلَّهُ أو نترُكهُ كُلَّه ..مُتناسينَ أنَّ الدِّينَ لا يقتصرُ على القُرآنِ و السّّنَّةِ..بل فيهِ منَ الإِجتهادِ و التَّأويلِ و إختلافِ الرَّأيِ نصيب ..لتضارُبِ القِراءات و إِختلافِ الأَفهام ، فهُو نامٍ مُتطوِّر ، مُعتدِل قابل للإختلاف ، كيانٌ سمحٌ ، مُسايرٌ للواقع ، في تجدُّدٍّ بخصائصه التي تُميِّزُهُ كالإِجتهاد و المَقاصد الشَّرعيَّة و فقهِ الواقع ؛ فالتَّشبُّثُ في الماضي ، فيما كانَ يفعلهُ السَّلَف ، فيمَا كانَ يقُولهُ السَّلَف ، كيفَ كانَ يعيشُ السَّلف ، و منهاجُ حُكمِ السَّلَف ..أنشأَ فردًا مُتعصِّبًا للسَّلَف يُحاربُ و يُجاهدُ فيما يُخيَّلُ إِليه و بكُلِّ ما أُوتيَ من قُوَّة لعودةِ حُكمِ الخِلافَة الإِسلاميَّة ! ، انشأَ فردًا يرفُضُ واقعهُ و يقُومُ بدورِ الوَصيّ في مُجتمعاتنا الإسلاميَّة ، يعيشُ تمامًا في الماضي ، يبكي على الأطلالِ ، في غيابٍ تامٍّ عن مُستجدَّاتِ الواقعِ الحديث ، فالنَّمُوذجُ النَّبويّ نمُوذجٌ حضاريّ بالدَّرجةِ الأُولى يُواكبُ المرحلة ، بل و يُواكبُ البُعد القِيمي ، الأخلاقي ، السُّلُوكي و الإِجتماعي للفرد ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها زفت امرأةٌ إلى رجلٍ من الأنصارِ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم : يا عائشة ” ما كان معهم من لهو؟ فإنَّ الأنصارَ يُعجبُهم اللَّهو”.وقال ابن عباس: زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصارِ ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أهديتم الفتاة ؟ قالوا : نعم . قال : أرسلتُم معها من يُغنِّي؟ قالت : لا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : إنَّ الأنصارَ قوم فيهم غزلُ ، فلو بعثتُم معها من يقول : أتيناكُم أتيناكُم، فحيَّانا وحيَّاكُم”؟ ؛ فمُواكبةُ الأحداثِ ، و التَّفاعُلُ معها ، و دراستُها بحكمةٍ بالغة و إِحتواء هيَ من شيمِ و أُسُسِ دينِنَا الحَنيف ؛ فالدِّينُ الضَّاربُ في عُمقِ الماضي في ضمنِ مرحلةٍ تاريخيَّةٍ مُعيَّنة ، لا يُؤسِّسُ لواقعٍ حضاريٍّ بمفهُومهِ العميق و لا يُقدِّمُ الإِسلامَ كمنهجٍ ، رُؤيةٍ و آليةٍ تتماشَى و المُتطلَّبات الحضاريَّة . فليسَ منَ التَّقوى بمكان أن نُشابهَ السَّلفَ في نمطِ معيشتهِم ، و تفاصيلِ حياتهِم ، و منهاجِ حُكمهِم ..و لكنَّ التَّقوى و الدِّينَ هُو في حفظِ الأمانةِ ، صيانةِ العهدِ ، احترامِ الرَّأيِ الآخر ، في ثقافةُ الآختلاف و التَّسامُح ، في طلبِ العِلم و برُّ الوالدين ..و تعزيزُ ثقافةِ السَّلامِ المُشتقَّةِ من اسمهِ ؛ الدِّينُ رُوحٌ و ليسَ فقط جسد ، حجابٌ أو نقاب ، لبسٌ مُقصِّرٌ ، تطويلُ لحيةٍ أو قصُّ شارب ، الدِّينُ ليسَ في تعدُّدِ الزَّوجاتِ و لا في خُطبِ المَنابرِ المليئةِ بالعُبُوس و القُنُوط ..الدِّينٌ رحمةٌ مُهداةٌ في شخصِ نبيِّنا الكريمِ صلواتُ اللهِ و سلامهُ عليه لقُلُوبنا المُتعبة ، بلسمٌ يُداوي نُفُوسَنا المُثخنَة بهُمُومِ الدُّنيا ، يُطبِّبُها لا ينكئُ جراحَهَا و يرحمُ الضَّعفَ الكامنَ في تكوينِنَا . الدِّينُ ليسَ مُجرَّدَ قُشُور بل هُو أعمقُ و اوسعُ من ذلك .
الإِسلامُ دورُهُ التَّأهيلُ التَّربويّ ، النَّفسيّ و الإِجتماعيّ للمُخطئين فيُؤدِّبُهُم بما فيهِ صلاحٌ لهُم ، فلا ينبذُهُم بل يحتويهِم و يُوجِّهُهُم لما هُو الأنسبُ لهُم .ففيما رواهُ البُخاريّ في صحيحهِ و لفظهُ عن عُمر بن الخطَّاب أنَّ رجُلًا على عهدِ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ و سلَّم كانَ إسمهُ عبد الله ، و كانَ يُلقَّبُ حِمارًا ، و كانَ يُضحكُ رسولَ الله و كان النبيّ قد جلدهُ في الشَّراب ، فأُتيَ بهِ يومًا ، فأَمرَ بهِ فجُلِد ، فقالَ رجلٌ منَ القومِ ، اللهُمَّ اِلعنهُ ، ما أكثرُ ما يُؤتى بهِ ؟ ، فقالَ النبيُّ الكريم عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ و أزكى التَّسليم ، لا تلعنُوهُ ، فإنَّهُ يُحبُّ اللهَ و رسُولَه ، لا تكُونُو عونَ الشَّيطانِ على أخيكُم و لكن قُولُو اللهُم اغفر له . فأينَ نحنُ من هذا ، طائفةٌ تُكفِّرُ أُخرى ، مُشادَّاتٌ و مُشاحنات في تعصُّبٍ للرَّأيِ و نبذٍ للرَّأيِ الآخر حُرُوبٌ أهليَّة و طائفيَّة بينَ أفرادِ البلدِ الواحد و بينَ أفرادِ الدِّينِ الواحِد . دينُنا براءٌ من كُلِّ هاتهِ المُمارسَآت ! ، دينُنَا طاقةُ محبَّةٍ و إحتواء ، طاقةٌ إشعاعيَّةٌ لسلامٍ يغمُرُ الكونَ و يزيد ، دينُنا دينُ التَّعايُشِ السِّلميّ بين جميع الأطيافِ و المذاهب ، ” فبمَا رحمةٍ منَ اللهِ لنتَ لهُم و لو كُنتَ فضًّا غليظَ القلبِ لانفضُّو من حولِك فاعفُ عنهُم و استغفِر لهُم ..” .
دينُنا و تعاليمُ شريعتِنا الإسلامية السَّمحة دُستُور السَّلامِ العالميّ و ميثاقُهُ الغليظ ، فالسَّلامٌ تحيَّةٌ نُحيِّي بها بعضنَا حينَ نلتقي . هيَ القانُون الدُّولي الواجبُ الرُّجُوعُ إليهِ في مُعاملاتِ تحقيقِ السَّلامِ في كيانِ الفردِ و المُجتمَع . تعاليمُ دينِنَا هيَ قُواتُ حفظِ السَّلام حيثُ ثقافةُ اللَّاعُنف و التَّعايُشِ السِّلميّ .
فكيفَ بدينٍ أُشتُقَّ السَّلامُ مِن اسمِه !