الدولة المنيعة

الدولة المنيعة

  • محمد عمر أحمد بن اجديرية

يتصور الكثيرون خطأً أن الدولة المنيعة هي الدولة القوية، ذات الجيش القوي والجرار، القادر على حمايتها من أي اعتداء خارجي، لكن الأمر خلاف ذلك تماما حيث يعرف مصطلح الدولة المنيعة في العلوم السياسية، بأنها الدولة التي تقارب درجة تعرضها للخطر إلى الصفر، بمعنى أن المخاطر المحدقة بالدولة قليلة أو تكاد تكون معدومة. والمخاطر التي تتهدد الدول عادة، يمكن أجملها في العناصر الثمانية التالية: 1. الأهمية الجيوبوليتيكية :بمعني أهمية الموقع الجغرافي للدولة، الأمر الذي يفرض على الدولة اتخاذ جملة تدابير للاستفادة من جهة من هذه الأهمية، ومن جانب آخر لتفادي وقوعها في مخاطر استغلال هذه الاهمية من قبل الدول الاخرى. هذه التدابير تتركز أساس في منعة داخلية، وعلاقات سوية خارجيا، فالدول التي عرفت كيف تقيم توازن دقيق بين الداخل والخارج، وعرفت كيف تكون جزء من لعبة الأمم دون ان تنخرط في تبعاتها كلية، تمكنت من الاستفادة من أهمية الموقع الجغرافي مثل ما فعلت اذربيجان وسلطنة عمان وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والدانمارك، في حين عجزت دول مثل الصومال وبنما واوكرانيا عن فعل ذلك واضحت راضيها مستباحة.عدم القدرة على استغلال أهمية الموقع الجغرافي من خلال علاقات خارجية سوية، عادة ما تجعل الدولة مطمع للتدخلات الخارجية.2. وجود موارد إستراتيجية :وجود مواد طبيعية ذات طبيعة استراتيجية في الدولة، المواد ذات الطلب العالي في السوق العالمية مثل الوقود الاحفوري (النفط والغاز) والذهب واليورانيوم، يرتب على الدولة تبعات التعامل وفق سياسات حكيمة، وعلاقات سوية تتسم بالندية، وإدارة الموارد بطريقة شفافة، وأي تعامل خلاف ذلك سيعرض الدولة للتدخلات الخارجية، التي تصل أحيانا إلى التدخل العسكري. 3. الفراغ الديمغرافي:عندما يكون عدد السكان قليل مقارنة بمساحة البلد، مثل الحالة الليبية، فإنه من أكبر المخاطر التي تهدد مستقبل البلد، وتغري بالتدخل فيها سلما أو حربا.4. لعنة الجغرافيا :عندما تجاور دولة ما، دولةأخرى معادية لها تاريخيا، تسمى لعنة الجغرافيا، فالعداء التاريخي، يظل يتجدد كل عقود أو قرون، مع فترات سلم قليلة قد لا تتجاوز بضع سنين، وأوضح مثل هي العلاقات التركية اليونانية.5. الاستبداد :يعتبر الاستبداد أصل الشرور، فهو لا يحرم البلد من السلم الأهلي، ويغيب ثقافة ومفهوم التعايش والتبادل السلمي للسلطة فحسب، بل إنه يزرع قنابل موقوتة تظل خامدة تحت رماد الإستكانة والخوف، إلى أن يصل الاحتقان إلى مداه، فتنفجر الاوضاع، بشرارة في الغالب تفضي إلى حروب اهلية طاحنة.6. الهشاشة الداخلية:الدول والمجتمعات التي تأخرت في التأصيل وتوطيد أركان الدولة المدنية، تتسم بقدر كبير من الهشاشة الداخلية، مما يقود إلى تقوية الهويات الفرعية (القبلية والجهوية والإثنية والعرقية) على حساب الهوية الوطنية الجامعة، مما يجعل الدولة مهيأة أكثر من غيرها للتحول إلى الصراع الداخلي المسلح، الذي تكون ضراوته شديدة ونتائجه كارثية.7. تصدير الثورة :بعض الدول والانظمة تتبني إيديولوجيات ذات طابع شمولي، ترى فيه خلاص نهائي للبشرية! وترى في نفسها رسول لخلاص الإنسانية، فتجير كل مقدرات البلد في مغامرات عبثية لتصدير الثورة خارجيا، مما يقود مع الوقت إلى استنزاف مقدرات البلد وزرع العداوات مع دول الجوار، والدخول في سياسة المحاور، تكون نتيجته سقوط كارثي ومدوي، في الغالب تكون تبعاته حروب داخلية، بعضها حروب بالوكالة. مثل ما حدث في الاتحاد السوفييتي والعراق وليبيا، أو كما يتوقع أن يحدث في إيران وكوبا.8. الطموحات الإقليمية والعالمية:بعض الدول يكون لديها طموحات إقليمية وعالمية للعب دور قيادي لا يتناسب وإمكانياتها الذاتية، قد يصاحبها مفهوم تصدير الثورة إذا كانت الدولة تتبنى أيديولوجية شمولية، (وسواء) كانت الدولة الطامحة للعب دور إقليمي قيادي أو عالمي -لا يتناسب وإمكانياتها الذاتية- تتبنى أيديولوجية شمولية أم لا فإن مثل هذه الدولة تجد نفسها متورطة في صراعات وحروب إقليمية، إما بطريقة مباشرة عبر التدخل المباشر في صراعات الغير أو بطريقة غير مباشرة من خلال تمويل احد أطراف الصراع، مكانة مثل هذه الدول الطموحة تتآكل مع الوقت، قد لا يقود ذلك إلى سقوط مدوي أو انهيار لها كما هي النتيجة الحتمية لتصدير الثورة، لكن مكانة الدولة داخليا وخارجيا تتآكل، ويتم عادة تلافي التبعات عبر تغيير النظام من الداخل، وإيقاف مغامرة الطموح المبالغ فيه. لو تمعنا في المخاطر الثمانية التي تتهدد الدول والمجتمعات المعاصرة لوجدنا أن سبعة منها في ليبيا، وهي التي أفضت إلى أحداث 17 فبراير كمحاولة لتصحيح المسار، أسلمنا إلى أزمة طاحنة نعيش كوارثها منذ قرابة عقد من الزمن.صحيح أن أحداث فبراير قد أنهت الاستبداد في ليبيا وأوقفت مغامرة تصدير الثورة، ووأدت الطموحات الإقليمية والعالمية التي كانت تتجاوز قدرات الدولة الليبية، إلا أن حكام ليبيا الجدد عجزوا عن التعامل مع تحديات ومخاطر: أهمية الموقع الجغرافي لليبيا ووجود النفط والغاز والفراغ الديمغرافي والهشاشة الداخلية، بل الأخطر من ذلك أن عجز حكام ليبيا منذ 2012 وحتى الان عن التعامل بوعي ومسئولية مع هذه التحديات والمخاطر، فتح الباب على مصراعيه للتدخلات الخارجية، التي وجدت في تدني وعي الفرقاءالليبيين فرصة سانحة للتدخل واستباحة الارض الليبية في تعدي سافر على السيادة، وبعد أن أضحى استقواء أطراف الصراع في ليبيا بالخارج هو ديدن الجميع!متى تدرك الغالبية الصامتة الليبية أن الأمر أولا وأخيرا بيدها، وأنه طالما الإرادة الشعبية مغيبة، ستظل الأزمة الليبية تراوح مكانها، وسنظل نعيد انتاج أزمتنا وبأشكال متجددة!

حفظ الله ليبيا من كل مكروه.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :