- شكري السنكي
المرحوم السّنُوسي عصمان.. رائحة مِن روائح بّنْغازي الّتي عرفنا يطل سُوْق الظّلام على ميدان البلَدِيّة عبر مدخل على اليمين يأخذك إِلى السُوْق مباشرة. وحينما تدخل إليه مِن ناحية ميدان البلَدِيّة، قاصداً شارع سَيّدِي سَالم، تجد المكان عبارة عَن محلات متلاصقة بعضها إِلى بعض، وكلّ دكان «محل» يقابله دكان آخر بينهما ممر. وتلاحظ منذ البداية، أن سُوْق الظلام مختلف تماماً عَن باقي التجمعات التجاريّة الأخرى بالمدينة مِن حيث الروح، وتفاصيل المكان، ومَا يُعرض فيه !. فهذا السُوْق ذو طابع خاصّ جدَّاً مِن حيث تاريخه وعراقته.. وكان به مِن البضائع مَا لا تجده فِي أي سُوْق آخر غيره. ويضاف إِلى ذلك أجواء الصفاء والمودة السّائدة بين تجار سُوْق ظلام، لدرجة إنّك تجد أحياناً صاحب محل يقف مكان صاحب محل آخر لأن الأخير حدث له طارئ فترك مؤقتاً مكانه انشغالاً بما حدث !. تُوجد عند سقف سُوْق الظّلام، نوافذ زجاجيّة محسوبة مسافاتها بدقة متناهية، ولغرض الإضاءة والتهوية.
وتٌوجد فوق سطح السُوْق، مجموعة مِن الكلاب المدربة بعناية فائقة لحراسة المبنى. أمّا مسؤوليّة الإشراف على السُوْق، فقد عهدت بلدِية بنغازي بها إِلى الحاج السُّنُوسي عصمان المميز بضخامة بنيته، وقلة كلامه، وكثرة دعابته. كان الحاج السُّنوُسي عصمان، يسكن بجوار السُوْق وعلى مَا أظن فِي شارع «عصمان» حيث أن معظم آل عصمان كانوا يسكنون فِي هذا الشارع العريق، وكانوا يشكلون نصف عدد سكّانه تقريباً.المرحوم بإذن الله، الحاج السُّنُوسي عصمان، من روائح الزمن الجميل الّذِي تميز بالصدق والصفاء والثقة والتعاون، علاوة على البساطة والتلقائيّة. البساطة الّتي كانت فِي كلِّ شيء، فلا تكلف ولا تصنع، والنَّاس كانوا على طبيعتهم وسجيتهم، لم تغيرهم الأشياء الّتي طرأت فيما بعد. زمانهم تخلّص سريعاً من كل شيء كان يعيق بناء الدولة والنهوض بالإنْسَان مِن التخلف والعصبيَّة القبليَّة والجهويّة المقيتة والنزعة الأسريّة أو العشائريّة، وبنوا دولة وأرادوا الـتـمـدّن وبدأوا يواكبون ﺍﻟﺘﺤﻀﺭ ﻭﺍﻟﺘﻁﻭﺭ بخطى ثابتة ومتسارعة، دون أن يفرِّطوا في دينهم أو يُعَادُوا موروث مجتمعهم.
كان مجتمعنا فِي زمن السُّنُوسي عصمان مجتمعاً متسامحاً متكافلاً له سماته الخاصة، لم يكن وقتها يعرف الجريمـة، ولم يكن تجاره مِن المرتشين، ولا أعماله كانت تقضى بالرشاوري والوساطات والمحسوبيّة. وكانت الشوارع فِي عهدهم خالية مِن مظاهر العُنف وقلة الأدب والمشاجرات «العرايك»، ولا تكاد تسمع فيها السب والألفاظ البذيئة. كان الحاج السُّنُوسي عصمان يدخل إِلى سُوْق الظّلام فِي أوقات الظهيرة وعند ساعات الغُرُوْب، وهُو مُمْسِك بِعُكّازِهِ ويرتدي بدلة عربية فوقها معطف، ويتجوّل بِعُكّازِهِ الجميل فِي أركان السُوْقِ ليطمئن على الأحوال ويتابع آخر التطورات. وكان يعرف أبناء التجار فرداً فرداً الكبير منهم والصغير كمعرفته للتُجّار أنفسهم، وكان مألوفاً لرواد السُوْق الّذِين كانوا يحترمونه كاحترام التُجّار وأبنائهم له. كان رحمه الله علامة بارزة مِن علامات السُوْق، وشخصيّة ظريفة معجونة بتربة بّنْغازي وماء بَحْر الشّابّي الّذِي لم يقو على فراقه فِي حياته قط. وكنت أرى فِي شخص الحاج السّنُوسي عصمان – وفِي مرحلة طفولتي – أباً للسُوْق وصاحبه !!. كانت بّنْغازي فِي زمن سُوْق الظّلام والسُّنُوسي عصمان، شيئاً آخر غير السائد اليوم.. كانت جميلة بأخلاق أهلها وبساطتهم، وبالنفوس النقيّة الصافية الّتي لا مكان فيها للأحقاد والضغائن والسواد. نفتقد بّنْغازي الّتي كانت، ولا نعرف أين ولى زمن سي السّنُوسي عصمان !؟؟. رحمــك الله يا سي السّنُوسي وغفر لك وجعل الجنّة دارك ومأواك.