تقرير : عبدالمنعم الجهيمي
تضييق الاختيارات أمام الشباب في سبها، أو هكذا يظن أغلبهم، فلا يجد بعضهم طريقه للكسب وتحقيق الدخل إلا من خلال البحث عن وظائف في أجهزة الحكومة التي صارت مثقلة بالموظفين، أو امتهان الأعمال الخارجة عن القانون وما أسهلها وأقربها منهم جميعا، هذه الثنائية حكمت قرارات وأسلوب حياة الكثيرين من شباب مدينة سبها، بل صارت رفيقتهم ومحورا مهما تدور عليه أحداث معيشتهم وقراراتهم فيما يخص مستقبلهم.
وهو ما جعل مشهد الشباب وهم يعملون في حرف مهنية مختلفة بسبها؛ مشهد مثير للانتباه وللفرح في أذهان الكثيرين منا، من بينهم الشاب عماد الدين حسين ميلاد، الذي نبدأ به سلسلة رمضانية من القصص الصحفية على صفحات فسانيا، محاولين أن نقترب من خلالها لسكان المدينة فنلمس همومهم وعذاباتهم وأفراحهم، بحثا عن لقمة عيش أو انتظارا لساعة فرح أو سعيا وراء تحقيق قيمة لمجتمعهم.
لا تنقضي ساعات العمل بسهولة في ورشة الشاب عماد الواقعة داخل حي سكني يعج بالحياة والناس في سبها، غير أن عماد يستطيع إمضاء هذه الساعات وهو يستمتع بالعمل الذي أتقنه لسنوات، وارتبط ازدهاره برمضان، الذي يعد الموسم الأول من حيث الدخل الذي يجنيه الشاب.
عماد الدين في الثامنة عشرة من عمره، وقد امتهن منذ ثلاث سنوات مهنة صيانة الدراجات، التي تعلمها على يد شقيقه الأكبر، فأتقنها وصارت محور حياته ومركز اهتمامه، حتى صار يعرف في مجتمعه بعماد دراجات، وهو لقب يثير عنده الكثير من الفخر والفرح، كونه صار رقما مميزا في هذا المجال
في ورشة عماد كل شيء منظما ومرتبا بطريقة قد لا نستوعبها عند شاب في مثل عمره، فالورشة رغم صغر مساحتها منظمة بشكل يجعلك تستوعب كل جزء ومهمته ودوره في سير العمل، بل يجعلك ترتاح لسلامة المكان وقدرة صاحبه على مساعدتك وتقديم الخدمة التي تريدها. يظهر على عماد الفرح وهو يعمل في صيانة الدراجات.
كما يظهر الفرح في وجوه الأطفال الذين يرون كيف يعامل دراجاتهم وكأنهم يستبشرون بعودتها مجددا للعمل ليجوبوا بها شوارع مدينتهم، تلك المتعة الوحيدة التي بقيت لهؤلاء الأطفال في مدينة كسبها. يجلس عماد على أريكة في ركن ورشته، يجول بناظريه في أرجائها، وكأنه يطمئن إلى أن كاميرتنا لن تنقل إلا ما يبهج الناظر إليها، يبتسم بكل ثقة وهو يحدثنا عن أجزاء الورشة، هنا توجد العجلات المستعملة والتي أضعها كبديل للعجلات المهترئة، وهنا هياكل الدراجات القديمة، وهنا أدوات الفك والتركيب والنفخ، وهنا عدة تغيير الزيوت والتشحيم.
ينظرُ إلى دراجة بين يديه ويتحدث دون أن ينظر إلينا، تعلمتُ الصيانة في السادسة عشرة من عمري، كنت أشاهد شقيقي الأكبر وهو يعمل في ذات المهنة لسنوات طويلة، وكنت أراقب كل تفاصيل عمله، وأشاهد ما يقوم به في سبيل إصلاح دراجات الجيران، في أحيان كثيرة أجلس بالقرب منه ولساعات طويلة دون أن أتحدث بل أكتفي بالمشاهدة وحسب.
بعد فترة لاحظ شقيقي اهتمامي بمعرفة تفاصيل عمله، وصار يتعمد أن ينجز أعماله بحضوري، بل أخذ يسألني عن تفاصيل الصيانة وأجزائها ومراحلها، ووجد مني حماسا في التعلم وحرصا على المتابعة والتنفيذ، لا أعلم كيف بدأت في العمل داخل الورشة مع أخي، ولكن ما أعلمه جيدا أنني كنت في غاية السعادة.
تلك السعادة تعاظمت حين تقاضيت أول مبلغ لقاء إنجازي لصيانة دراجة أحدهم، كان المبلغ بسيطا خمسة دنانير ولكنه كان إنجازا عظيما في نظري على الأقل، شعرت يومها بالمسؤولية وأنه يمكنني أن أكون اكثر استقلالية واعتمادا على نفسي في الأيام المقبلة. حينها تساءلت كيف لشاب مثل عماد وفي عمره أن يفكر بهذه الطريقة في هذه المرحلة المبكرة من عمره، فالبحث عن الدخل المستقل والاستغناء عن مساعدة الأهل ليست من الأفكار التي تراود مخيلة من كانوا في عمره عادة، ولكن يظل لكل شخص خصوصيته في هذا الأمر، فالبعض لا يستسيغ أن يكون عالة على أهله، والبعض يرى أن الاكتفاء وتحقيق الدخل يحقق له كيانا مستقلا ولو مرحليا عن أسرته.
وكأن عماد شعر بما يدور في فكري، فأخبرني أنه لم يعد يعتمد على والده في مصروفه منذ سنوات، يقول شعرت بأنني قد أرحته وأرحت نفسي، فهو لايزال ملتزما ببقية الأسرة ولعله يفخر بأني بدأت في الاعتماد على نفسي، وكذلك أنا أشعر بأني صرت أحمل قيمة أكبر وأنا أحقق دخلي المتواضع. من يستمع لحديثي حول الدخل يعتقد أنني أحقق قيمة كبيرة، ولكن ما أجنيه في اليوم الواحد لا يتجاوز السبعين دينارا في غير أيام رمضان، ولكنه يصل إلى 120 دينارا في فترة رمضان، هذه القيمة تحقق لي ما أحتاجه في الدراسة وتوفر لي بعض حاجياتي الأساسية، كما أدخر منها قدر المستطاع.
لم يتقبل الكثير في سبها عملي في صيانة الدراجات، هذا في الفترة الأولى ولكن بعد سنوات صار مشهد أن يعمل شاب حرفي مستساغا ومتوقعا، كما صار عملي مدعاة لتحفيز الكثير من الشباب، هنا يأتيني طلبة في مثل عمري ويأملون أن يجدوا فرصة عمل كالتي أعمل فيها، تتملكني السعادة وأنا أراهم يبحثون ويجتهدون في البحث، ولكن أعجز عن توفير العمل لهم بسبب ضيق المكان وقلة الاحتياج لمن يساعدني
ولكن أسعى لتعليمهم وأعرض عليهم دائما أن يتعلموا ما يستطيعونه، في المدرسة صار الجميع يعرفني بعماد دراجات، حتى المعلمين والمعلمات ورغم أنهم لايهتمون بالدراجات ولكنهم يتحدثون عن عملي في هذا المجال ويحكون قصتي لتلاميذهم.
أواجه كالعادة نزق طباع العديد من الزبائن، والذي يصل الحد ببعضهم إلى التنمر أو التلفظ بألقاب نابية، وهو أمر وارد، أقصد أن يكون بعضهم نزقي الطباع، خاصة إذا لم يكتمل عملهم أو وقع تأخير بسبب كثرة الأعمال المنوطة بي في الورشة، في بعض الأحيان لا أتفاعل معهم بل أستمر في عملي ، وفي بعض الأحيان أُفضِلُ أن أنبههم بطريقة لطيفة إلى أنهم يتجاوزون في التواصل بشكل مجحف.
اليوم أجلس هنا في ورشتي بعد ثلاثة سنوات و يعتريني حزن أخبار المدينة وشبابها، بين قتيل ومجرم ولص وبائع مخدرات، أشعر بأني كنت محظوظا بعملي ومهنتي، وأتمنى أن يرافقني هذا الحظ لأحقق حلمي بأن أكون مهندس اتصالات، وفي ذات الوقت أرجو لشباب مدينتي واقعا أفضل من الذي يعيشونه ويضيف البعض يختار وقتا للعمل ويتحجج بالظروف ويعتبر شهر رمضان المبارك وقتا غير مناسب للعمل ، بينما يزداد شغفي بالعمل والعطاء في هذا الشهر الفضيل الذي ترتفع فيه الروحانيات وتزداد فيه البركات.
كانت كلمات عماد مبهجة وباعثة للأمل،