تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
سعاد سالم
نخافوا مالضحك؟ علاش؟بدأ هذا السؤال يتحرك في رأسي منذ أن سمعت الضحك تحت نافذتي، فيما كنت منشغلة بتنظيفها، حدث ذلك في ظهيرة أحد أيام الصيف من عام 2016، وأذكر ذلك جيدًا لأن حداثة الاستقرار في روتردام جعلت حس الملاحظة والتأمل لدي أكثر حساسية وتوقدا.
إذًا، غَشَت تلك الظهيرة لبضعة ثوانٍ ضحكات جماعية بترددات مختلفة ومنسابة في الشارع، كما تنساب صاحباتها فوق دراجاتهن في حدث لابدَّ أن يقع كل يوم في روتردام، غير أن شيئًا من قبل لم يحدث هذا الإرباك في داخلي، لأنه بقدر ما كان المشهد جميلًا وحرًا بقدر ما أزعجني. فسألت نفسي بصوت واضح : ما هذا الشعور ؟
قد يفكر البعض أنها الغيرة، النساوين ينغروا من بعض وهي مسلّمة اجتماعية لا تقبل الدحض بالطبع، وربما يقول البعض أنه الحسد، ولكن حين أطلقت سؤالي، كنتُ قريبة جدًا من الحصول على الجواب. إذ أن ما فاجأني حقًا هو ذلك المخزون من الثقافة الاجتماعية التي تختبئ في ركن قصي من عقلي، والتي في حالتي تعني أن حدثًا بغيضًا سيجلبه هذا المشهد البديع لسرب المراهقات اللاتي يطرن بقفيطيناتهم لقصيّرات وقوناتهم الميني وشباشبهم وصندلياتهم اللامعة. إي نعم، هذا ما تفعله بنا الأشياء الجميلة، نخاف منها، وكنتُ أعتقد أنني ناجية من هذا النوع الخفي من الخوف،وأنني أقف في نافذة البيت بشارعنا في اطرابلس! وأن السماء بعد هذه اللحظة المبهرة ستنطبق على الأرض، أو على الأقل يوم القيامة يستنى في لبنيّات علي راس الزنقة.
ياللغربة وياللغرابة
تريدون تعريفا جديدا للغربة؟إليكم هذا: أن أنفصل أحيانا عن الواقع، أن أنسى أنني في شارع موليير مش في شارع الجمهورية أو عين زارة، اتصور هذه أقسى أنواع الغربة، وأن أسمع اسم أحد اخوتي ينادى عليه كما يحدث هناك ، فيما هو ابن الجيران ينادي على أحدهم ويكلمه بالهولندية، ومرة أخرى سيقول البعض ، لابد أنها هِبلت، وهذا تشخيص اجتماعي سريع يقوله صاحبه بثقة أعلى مما كانت لدى صاحب كتاب القانون في الطب*، وطبعا كما متوقع تشخيص غير قابل للدحض. غير أن للحظات الانفصال هذه أيضا سرسوب ضئيل من الخوف الخفي، فالعقل المحشو بكل ما قيل و ما مر به من انطباعات ومشاهدات في الطفولة وفي عمر بنيّات روتردام تلك، يجعل همّ العقل هو إنقاذ حياتي بعدم السقوط في الغربة دفعة واحدة فينكسر قلبي، الكسر الذي كما تبث مؤخرا ليس تعبيرا مجازيا بل هو خطر فسيولوجي حقيقي. يهدد الحياة، إنه نفس العمل الذي تعودت عقولنا على تجنيبنا إياه في حالة الضحك أو سماعه، بناء على ميراث بالغ الرسوخ والجدية من الكلمات والأفعال، أسست للخوف الخفي مما سيحدث بعد واقعة الضحك الجلل.
سُمعة الضحك: سهواك
لابد أنه وتاريخيا مر ناس ليبيا وشعوب الشرق عامة بما يمكن تسميته واقع مرّ بعد إزدهار، وفي تصوري الحروب والهزائم والعبودية التي تلتها،وذلك كما مر بهذا الغرب في القرون الوسطى، لها بالغ الأثر في علاقتنا بالضحك كفعل مرح وسرور ، لذا يبدو الضحك ملائما للمنتصرين في مجمل أنواع الحروب، إنه نوع من استرجاع الطبيعة الانسانية وردات أفعالها العفوية حين يستقر المجتمع ويفهم راسه من رجليه، ولا يكون الغموض والمجهول نظام حكم اجتماعي او سياسي، قائم على جعل حياة الناس صعبة، فلن يشق الحياة الصعبة إلا نوع من الضحك المريض بالحزن (السخرية من النفس ومن الآخرين)، او المنطوي على قلة الحيلة ،وعلى قلة ذات اليد (السخرية مما أو ممن جعل الناس تعاني ، أعني نظام الحكم) ولكنه ليس ولا بأي صورة قريب في خلفيته وأسبابه من ضحك صبايا روتردام فوق بشكليطاتهم في ظهيرة أحد أيام الصيف في شارع موليير.
دلالات الضحك
سمعنا هذه التحذيرات كثيرا فيما نحن مستغرقين في التفاعل والسعادة بالرضيع الذي يضحك من دغدغاتنا أو حركاتنا، مااضحّكوشي يولي عليه بكي! وهذا حقيقي جدا فيما لو تجاهلنا التنبيه،الرضيع سيبكي في لحظة وصوله للتشبع، طبعا كل شيء كما في علم الاقتصاد، حين نصل للاشباع يتعطل نمو التفاعل الإيجابي للحظات ثم يبدأ في الانحدار أي ينقلب لضده ،حتى الضحك ،وفي هذا لن تختلف النتيجة بين معدلات الانتاجية أو نسبة المرح.
إن المجتمع نمّى شعورا بالعداوة تجاه نوع واحد من الضحك، ضحك الحبور كالذي انساب تحت نافذتي ، إنه الضحك الوحيد المثير للقلق على مستوى أكثر مما يثيره التطرف أو البطالة أو التسرب من التعليم أو الفساد وجميعها تستحق كل القلق والتوجس.
ففي التراث الديني والمحلي كان الضحك بمعنى الهزوة أو الاحتيال في العلاقات العاطفية او المالية أكثر حضورا ، والتركيز عليه كتحذير مرتفع الخطورة، إلا إنه إْضّحَكْ عليها/ عليه أكثر تداولا وحدوثا فيما لاترّن تلك الضحكات إلا في رأس من تم الضحك عليه/ عليها. وهو وعلى خلفية كل ممنوع مرغوب أكثر أنواع الضحك صمتا وانتشارا.
كيف صار الضحك مشوها إلى هذا الحد؟ في الحقيقة لاأعرف ، ولكن ما أعرفه أن الضحك تعرض لحملات مضللة كما تصورت أعلاه بسبب أحداث تاريخية انتج تراثا يصف الضحك باللؤم وإن رفيقه صاحب سوء وصاحبته مشكوك في أخلاقها، وهذا ماسيطر في الدراما والخرّافات الشعبية ودروس الوعظ على منبر الجامع، وتواصل هذا التشويه حينما صار رفيقا للتعساء و المغلوبين و اللؤماء والمتنمرين والحمقى والسكارى أو وهو يطرشق مع (اللوبان)ولوشق في بيوت الدعارة.رغم أن حياة كل هؤلاء خالية من المرح وملتهبة باللوم والبكاء و الشعور بالذنب، واليأس، وبالعار.
لهذا كله تنطوي عقولنا التي نبتت في البلدان الأقل قيمة في الحاضر بسبب انكسار عظيم هشمها في الماضي على حزن دفين يعادي السعادة خوفا من فقدانها ، ويخاف من الضحك لأنه يعني الحرية التي طرقعونا على صوابعنا وجعلونا نعاني لمّا فكّرنا فيها وأردناها،واخضعنا لأنظمة حكم متعددة تضحك علينا، لذا عندما نسمع ضحكة مرحة وحرة في الشارع ، بعضنا يضايق وبعضنا يشتمها ،أما أنظمة الحكم فتجري خلفها لتقتلها ، لأن الضحك ساعة والبكي مشوار، ويعتقد الأغلبية إن الدنيا جابت ماعندها وأن يوم القيامة أكيد واقف في الشوكة.
إذا من المسئول عن ارتباكنا أمام الضحك وتحديدا ضحك البنات، أو ضحك الشبان في ناصية شارع بن عاشور في التسعينات ،ضحك وصفته جارتنا عزة الفلسطينية الممتعضة من اقصائها حتى أنها وصفته بإنه فعل شائن وحقير، ولماذا علاقتنا بالضحكة اللي نسّموا فيها صافية تعكرت إلى هذا الحد؟ في بحث سريع عما إذا كنا بروحنا في هذه العلاقة السامة مع الضحكة الصافية ،اكتشفت أنه حيثما يحل الاستبداد بطريركي (أبوي) أو ثيوقراط (رجال الدين) أو سياسي (طاغية فرد، أو احتلال، أو فساد)، أي كلما زاد التحكم في الحريات الشخصية وخسر الناس كرامتهم مقابل حاجاتهم تنتج المجتمعات ضحكها الملائم لهذا النوع من الحياة، حتى أنني أكاد أجزم أنه من دلالات الاستقرار والنهضة أن لايخشى المجتمع الضحكة الصافية في الأماكن العامة للناس كافة، وضحكة النساء خاصة.
الخلاصة أيتها السيدات /أيها السادة
الضحك المرح الناتج عن الحبور والرضا والحرية يقلق المستبد كثيرا، لكنه يقلق ضحايا الاستبداد أكثر بكثير.
لهذا اقترح أنه في المرة القادمة تعلمن/تعلموا تقبل الضحكة الصافية إن صادفتكن/كم، فكما هى نتيجة الحبور والرضا أنا متأكدة أنها سبب أيضا للحبور والرضا.ومقاومة سلمية للاستبداد على أنواعه، فلنترك الخوف للمستبد يتقالد هوّا وياه ،
ونحن ؟ نحنُ نضحك أو نرحب بالضحك.
_______
*ابن سينا مؤلف كتاب (القانون في الطب)