- عادل المعيزي
أجمل ما في الأمر أنّ أبناءَ غَزَّةَ لمْ يَتَعَلَّمُوا بلاغة الموتى،
عندما سَئِمَ الشاعرُ حَيَاته اليومية: النهوض باكرا بحثا عن قصيدة،
مرافقة باقة أزهار إلى المدرسة، تنظيف الظهيرة من حطام البلاغة،
كان أبناءُ غزّة يَسْتَقْبِلُونَ مَوْتَهُم اليَومي وهم يَسْحَبُونَ الظِّلاَلَ وَرَاءَهُم وَيُشَارِكُونَ العَالَمَ
حرارةَ الأَغَانِي كَتَمْرِينٍ على المرارة…
كانوا يستَقْبِلون حَيَّاتِهم اليوميّة !
“أيّها الحيّاتُ أولادَ الأفاعي ! كيف تهربون من دينونةِ جهنّم“/
هل كان إنجيل مَتَّ يعني دينونة الطوفان؟ !
*
بصراحةٍ، أوْ بالأحرى لِنَكُنْ أكثرَ صراحَةً مِنْ وَقَاحَةِ صَمْتِ السَّاسَةِ والحُكَّامِ عَرَبًا وأعاجِمَ:
الخلقُ أرضٌ وسَمَاء
وبُعْدٌ ثالثٌ يُدعى غزّة
﴿لاغير﴾
ربّما بلون الشَّمَنْدَرِ روحُها، ربّما بلون الزيتون، ممدّدة قرب الماء
أمّا الأطفالُ والنِّسَاءُ والرجال ليسوا سوى خلايا جسمها !
تتجدّدُ حين تَصمُتُ وحين تُغَنّي وحين ترقص وحين تبذر بمحاذاة النهر
بياضا يشعّ بكل الأضواء
*
أحيانا يسألني مخمور بشراب الحرية: كيف لهذا البعد الثالث الواقع بين السماء والأرض
والمُسَمَّى جِزَافا غزّة أن ينقل الماء من وسط القصائد؟
ثمّةَ مَن يَتَسَاءَلُ كَيْفَ نُميّزُ نجمة بعد كلّ هذي الحروب؟
أوراقٌ تتساقطُ
بُخَارٌ مَغْلُولٌ يَتَصَاعَدُ
أيَادٍ تَشْتَعِلُ
لحظةٌ داكنةٌ تُقتلع من أسطح الغرباء
رُكَامٌ يَصْحُو بِكَدَمات الحرية
حتّى الموت في غَزَّة يفترشُ “أغَانِي الحياة“
*
بعد عام من الطوفان لم أعد أملك جسدا صرتُ عينا مطبوعةً على الشاشات
أبصرُ هوّةً
أبصرُ مَوْتًا بَيْنَ الأَزِقّةِ بِلَوْنِ رُمَّانَةٍ نَاضِجَة
(هلْ صَارَ المَوْتُ أزِقّةً بِلَونِ رمَّانَةٍ ناضجة؟)
أبْصِرُ أَلَمَ القَصِيدَةِ العَاجِزَة
بكاءً حَارًّا يَتَطَهَّرُ الحَجَرُ مِنْ سُبَاتِهِ
احتراقَ جَسَدِ الحُقُول
شريطًا يَحُثُّ الجَرْحَى على الموت
بذرةً مُمَرِّضَةً مُبْتَلَّةً بالطيبة
نسوةَ مراسيمَ
تلاميذَ تختلط الحروفُ بالخيامِ بالضبابِ بالغبارِ بالشظايَا
ثمّة أيضا من يتساءل كيف نميّز التلميذات عن قشور الحرب
عن ركامات الصمت،
عن القشعريرة؟
*
في السنة الأولى بعد الطوفان قرّرت أن لا أسلّم نفسي لنصائح الأحزان بلا جدوى
تعودُ الآنَ ولاَ تَخْتَفِي، لَمْ أُصَدِّقْها آنَذَاكَ تِلْكَ الفِكْرَةُ المُتَوَقِّدَةُ
مثل جَارٍ يعرجُ
كلُّ ما في الأمرِ
أَسْهَرُ لِأُقَامِرَ مَع الشّاشَةِ عَلَى عَدَدِ الشُّهَداء والقَتْلَى
ومن المصادفاتِ الغريبةِ أنِّي صَدَّقْتُ أَيَادِي الفَرَاغِ وصفّارات الغُزاة
وخسرتُ الرهان
وفجأةً يَظْهَرُ اسْمِي أَسْفَلَ الشاشة في الشريط الأحمر القاني
كأكبر مرشّح لقيادة ذُبَابَةٍ وإسقاط طائرة آف 15
والأغرب ترشيحي لقيادة ذبابة وأنا لا أحسن الجلوس حتّى على ظهور البعوض !
أقرأ أخبارًا عن الطوفان
أرى مشاهد عن معارك ضارية يقودها الشجعان ضد القتلة
كدتُ أسقط شهيدا في إحدى المعارك أمام التلفاز
انفكّ السلكُ الواصلُ وحاولتُ إرجَاَعه لوَصْلَةِ الكهرباء قَبْلَ أنْ يَنْقَضِي المَشْهَد
وبُمْ… مَعَ انْفجار دبّابَةِ العَدُوِّ مِنَ المَسَافَةِ صِفْر يصعقني الكهرباء
أبكي مثل شيخٍ عَاجِزٍ عَنِ الذَّهَابِ بِمُفْرَدِهِ إلى القَبر
أضحكُ عَلى آلاف الكيلومترات التي تفصلني فتضحك آلاف الكيلومترات عليّ
نَبكي نَضْحَكُ مَعًا حَتَّى لا أُسَلِّمَ نَفْسِي لِأَصْنَامِ الإحباط (…)
*
يا للهول ! غزة أصبحتْ شَكْلاً مِنْ أَشْكَالِ التَّعبير
ولنقلْ أيضا إنَّها أَصْبَحَتْ شَكْلاً مِنْ أَشْكَالِ الوُجُود،
وجودنا نحن الواقفون عند هذه النقطة من حِبْرِ الإنْسَانِيَّةِ المَهْدُور
نَنْتَشِلُ الكَلِمَات وَنْرْتُقُ بها خصية “العولميَّة” المفتوقة
لا شكّ أنّ مَن كانوا هنا وُلدوا من الطوفان
وُلِدُوا مِنَ الانْتِظَار أم اللامبالاة
أم الصمت
في المدرسةِ قُرْبَ البِئْرِ – أَعْني في ما بقي من كلمة مدرسةٍ–
قُرْبَ مَا بَقِيَ مِنْ كَلِمَةِ بِئْرٍ تَحْتَ الحُطام فردة اشْلاَكَه مقاسها 28
كانت وردية الابتسامةِ قَبْلَ الغَارَةِ، يُعذّبني لَوْنُهَا طِوَالَ اللَّيل، تُبَلّدُني الغرائز
(أرعى في حقول الطوفان كأوتنابيشتيم وهو يُعَرِّف الحربَ:
– هل الحربُ أن نبصق على وجوهنا في المرآة؟
– لا، أن نَنْزَعَ أَفْوَاهَنَا وَنُوَجِّههَا مُبَاشَرَةً إلى وجوهِنَا وَنَبْصُق عَليْها..)
القِطُّ المعجونُ يَجْتَلِي سرّ مَن يأكل الآفاق
تُصدّعُ رأسي ضجّةُ شظايا المآتم
أعراسُ الجيوش تَسْحَبُ الهمومَ بسلاسلِ العبيد
وأنا أتحوّلُ إلى سَنَةٍ عجفاء تجلس للمشاهدةِ،
وأستذكرُ حكاية الشيخ الذي ظلت يده التي بُترتْ عن جسده بقنبلة
تأتيه كلَّ لَيْلَةٍ في المَنَامِ وَتَدْعُوه أنْ يَبْحَثَ عَنْهَا
تحتَ الأنقاض !
*
الشتاتُ والذاكرةُ التوَّاقَةُ تَخْتَصِرُ المَشْهَدَ في ملحمة رامايانا الهندوسية
أو في شظايا الأصيص… سأعيد ترتيب المشهد من جديد:
في المستشفى ميدعةٌ بيضاء تَطلب من شاربٍ يبكي أن يأتي بالدواء من صيدلية المدينة
لأمومته التي تنزف جرّاء سقوط جدار بقنبلة ضاحكة،
يمضي الشاربُ بطلاقة إيماءات راحة اليد… لكن الآخرين الذين يتابعون المشهد ويلتفتون
إلى السكون، أولئك الآخرون الذين يغمزون بأكاذيبهم القديمة ويُخَلِّفُونَ العُبُورَ إلى خدعةٍ
عَتِيقَةٍ غَرَقُوا في المهانة قبل أن يعود ذلك الشاربُ بالدواء!
حينَ عادَ لم يجد الطبيب
لم يجد أمّه
لم يجد المستشفى
حتّى الإشاعات الصغيرة التي يطلقها البهلوانيون المُقَنَّعون الذين يَتَخَبَّطُون
فوق حطام المدارس، المُجَذِّفُونَ في الطوفان قبل غرقهم قرب النجوم
حتّى الورقة التي تتقوّس فوق الهاوية لَمْ يَجِدْهَا !…
القنابلُ مثل القَبَائِلِ تَغْمِزُ للنُّجوم وَتَرْتَحِلُ عَلَى التِّلاَلِ الحَدْبَاء وتَمْضِي سَرِيعًا إلى الهدف….
*
دمٌ ضحكاتٌ يسيل ولا يتوقّف، كالوقت بين النشأة والتكوين
دمٌ يدعو الصحراء البعيدة ليست بعيدة، يدعو السراب، يقرع الملح
يتسرّب في المتاهة
يجرّه المنفى
يرثي الشمس
يرثي السلالة ولا يتوقف عن الضحك
في المنفى (كل مكان –وإن كان وطني- بعيدا عن غزَّة هو المنفى)، لاَ أتَوَقَّفُ عَن النَّشيج
لكنْ مَا أَسْهَلَ الأَسْئِلَةَ مَا أَعْسَرَ الأجوبة !
– ” لماذا لا نُسقط طائراتهم؟” تسألني بنتُ أبيها
– كيف؟
– نستعيرُ طائرات الجيران الورقيّةَ، ألَمْ تَقُلْ لي إنَّ لَهُم طائراتٌ ترسلُ
أصواتا ملوّنَةً ودباباتٌ لمّاعةٌ تحرث الأرض بالكوموند
وحولَها سلاسل؟
وَلَهُمْ قُبَّعَاتٌ تَقُودُها النّارُ؟
وَلَهُمْ كلامٌ وَخُطَبٌ وَصُرَاخٌ
وَلَهُمْ هَيْلَمَان
في ألعاب الفيديو؟
-…… ……….
– فَهِمْتُكَ يا أبي، أَنْتَ لا تُحِبُّ رائحَةَ الضجيج !
*
القنبلةُ قابلةٌ، تمدُّ يَدَيْها وتُخرجُ الجنين قالتْ وهي تَنْظُرُ إليه:
“لستُ سوى مخلوق يأمرني الخالق فأخرج من شَقٍّ وأطيرُ إلى هدفي
أحيانا أصبح دواء للفقر أدهس عائلة كثيرة العدد
أحيانا تنورا مشتعلا
فأسا لتهديم البيت والمدرسة والبئر
فزاعة للأطيار وللأشجار…”
تنظر القابلةُ إلى عرق يخالطه دمٌ
ولكن ! أين الجنين
وأين الأمّ
وأين القابلة
وأين المريض
وأين الممرّضُ
أين الجدار؟
*
زمني يفكّرُ كالحطام
والأبجديةُ جَسَدٌ مِنْ حَدِيد
عَرَبَةٌ (عَرَبيّةٌ – باللسان المصري- ) يَجُرُّها حمار
والطريقُ إِلَى المَوْتِ خُطْوَتَان
*
لا شكّ أنّي لم أولد بعد
أنا الآن في جوف الحلم: جلاَّدُون ودماء في الرواق
قتلى أشلاء في الطريق، رصاص وقنابل واسطرلاب آخر
لا شمس لتفكّ جدائلها ولا قمر يُقذف للتوِّ من أعالي الباب
ولا جسد يستلقي في جنّة البيت
ولا شفاه تقرأ قصائد الحب
ولا موسيقى تُصْغِي لغرناطة الخيال
لا شيءَ سوى حبرٍ مُتَفَرِّدٍ يُقاومُ التقويم الفَلَكي
متَى يَنْكَشِفُ الحِجَابُ عَن المَعْنَى
والمسافةُ عن الطريق !!!
*
تحت سماء مشرقة، بالأمطار، لا ندرك الفرق بين عرقها ودموعها
تخرج من بين الأنقاض، صورة مستهلكة في اللوحات الفنية وفي السينما، زهرةٌ وقد وُلدتْ
للتوّ
وبين الدمار أطفال يلعبون ورغم الحفاء والعراء تُركّز الكاميرا على ضحكاتٍ مُتّسخَةٍ
هكذا تزرع القناة في شاشتي الأملَ وأنا أسقيه بسطل من الماء فتحترق تلفزتي
وتصيح زوجتي من شرفة القفص المطلّ على الجيران: “وووووووووه ! ماعادش انجّم“
الخوف من المستشفى القريب من قفصي في منوبة يجعلني أكثرَ صمودا فأرسم بالحبر
الأزرق بحرا كرمز للأمل وأفكّر في شعوب أخرى مازالت تحت الأنقاض إلى اليوم
فكّرتُ في الهنود الحُمر، فكّرت في الأرمن فكّرتُ في الهوتو فكّرت في التوتسي، فكّرتُ في
الفور فكّرت في الكامبوديين
وحين فكّرت في أبناء قرطاج سمعتُ في الطابق تحت الأرضي للعمارة حيث تركن زوجتي
سيارتها أصواتا تترجَّاني بلغة قرطاجيّةٍ واضحة وحين ذهلتُ قالت لي: “نحن هنا تحت
الأنقاض منذ السابع من أكتوبر من عام 146 قبل الميلاد !”
عدتُ إلى غوغل وسألت عن التاريخ فأكّده لي !!!
من حينها أخذتُ فأسي وها إنّني مرّةً أكتبُ كلمةً ومرّةً بالفأسِ
أشطبُها
*
سوفَ أروي لكم دمي
حين أعلنوا الحربَ كنتُ في الطريق القديمةِ المشوّشة بالإشعارات لم يأتِ معهم أحدٌ
سوى فئة قليلة: لبنانِ ويَمَنَانِ وأيرانِ اثنانِ
لم يكن أمامي سوى جمع أغراضي والالتحاق بسفينة أوتنابيشتيم
نحن الآن في الخضمّ نواجه الأهوال والطوفان:
أرى الحربَ
سفينةً
في شكل طوفانٍ
أو طوفان
في شكل
سفينة !