محمد بعيو
طيلة ما يقرب من ربع قرن، تعودت الحضور إلى القاهرة سنوياً، وأحياناً أكثر من مرة في السنة الواحدة، معظمها كانت لزيارة مكتباتها ودور النشر فيها، ومعرضها الدولي السنوي للكتاب، حتى كانت الجمعة 28 يونيو 2013، اليوم الأخير في تلك العلاقة الحميمة الدافئة، مع عاصمة كل شيء حي، الرافضة أن تعيا أو أن تموت، والقابلة في سيرورتها التاريخية العجيبة بكل شيء، إلاّ أن تستسلم لدهاة المتأسلمين دعاة الموت.في تلك الجمعة التي سبقت هذه الجمعة، بسنين وشهور وأيام، شهدت زخماً غير مسبوق من العذابات والآلام، بدأ تنظيم الإخـوان وفي آخر أيام حكمهم القراقوشي لمصر، الذي امتد فقط {وذلك من ألطاف الله بمصر والمصريين سنةً واحدة ويومين}، تنظيم اعتصامهم بميدان رابـعـة الـعـدويـة، بمدينة نصر بالقاهرة، في محاولة لإجهاض الانتفاضة الشعبية العارمة ضدهم، والتي قادتها ما تسمى حركة تمرد، وانحاز إليها الجيش المصري الوطني، وانتهى اعتصام رابعة في يومه الثامن والخمسين نهاية دموية للأسف، بعدما سقطت سلطة حزب الإخوان، وذهب قادته ورموزه بمن فيهم الرئيس محمد مرسي رحمه الله، إلى السجون.يومها دعوت الله أن لا يُمكّن تنظيم الإخوان في مصر من الحكم، لطفاً منه ورحمة بإخوتنا المصريين، وبنا نحن الليبيين، الذين كنّا نعاني يومذاك من تسلط وطغيان تلك الجماعة وحلفائها وذيولها، والتي انحرفت عن الدعوة إلى دين الله ومكارم الأخلاق كما كانت تزعم، إلى الشهوة في الحكم الإستبدادي للبلاد، والتحكم الإستعبادي في رقاب العباد، ولقد استجاب الله سبحانه وأنقذ مصر منها، ومازالت في لـــيـبـيـــا بقايا منها، ذاقت بلادنا الأمرّين منها، وسينتهي أمرها قريباً بإذن الله، عبر صناديق الإنتخابات، حين ننتخب الرئيس والسلطة التشريعية، ويعود من بقي من إخوان عاقلين إلى رشدهم، وإلى حجمهم الحقيقي شركاء لنا في الوطن الواحد، ولسنا مماليك لهم في الوطن المنقسم.
أقسمت يومها أن لا أعود إلى القاهرة إلاّ وقد انتهى حكم الإخوان، وما كنت أحسب يومها أنه سينتهي بعد يومين إثنين، من ذلك الإعتصام الغبي الفوضوي، الذي احتل مقام الصدارة في دهاليزه ومنصاته الخطباء المجعجعون الكذابون، الذين تباروا في الكذب على البسطاء المصريين، حتى أن أحدهم بلغت به الجرأة أن زعم وهو يبكي، أنه رآى في منامه الرئيس محمد مرسي إماماً في صلاة الجماعة، وخلفه يقف مأموماً محمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يصفون، وتسامى رسولنا الكريم عمّا يكذبون ويُرجفون.ظروف كثيرة عسيرة شهدتها لـــيـبـيـــا بعد ذلك العام، حالت بيني وبين زيارة مصر، ووصل ما انقطع، وكذلك قناعات شخصية ومواقف ذاتية، من بينها احتجاجي على منع السلطات المصرية للطائرات الليبية من الهبوط والإقلاع عبر مطار القاهرة الدولي، الذي ليس ممنوعاً على أحد إلاّ علينا نحن الليبيين المعذبين، وإرغامها لنا على استخدام المطار العسكري التعيس برج العرب البعيد نسبياً عن الإسكندرية، والسيء الخدمات والمعاملة، كما وصف لي من أضطروا إلى السفر عبره، والبعيد عن القاهرة حيث مقصد معظم الليبيين بأكثر من 200 كيلومتر .آليت على نفسي أن لا أدخل القاهرة إلا عبر مطارها الدولي، كما كنت أفعل، وفي رحلة مباشرة من مطار ليبي مهما طال الزمن، فأنا ليبي حتى النخاع، وحد الهوس والإندفاع، ومستعد ليس الآن فقط وقد اقتربت من الستين بل منذ كنت أصغر من ذلك بكثير، أن لا أغادر لـــيـبـيـــا كل عمري، فهي أُمي وقدري ووطني وقبري، ولم يحدث أن غبت أكثر من أيام معدودة، عن بلادي التي أعشقها مثل حبيبتي الوحيدة، وأحبها وأطيعها مثل أمي الغالية، التي رحلت عن الدنيا، لكن حبها لا يرحل، ولــيـبـيــا لن ترحل، وبإذن الله لن تموت.ظُهر أمس الخميس عاد الوصل المباشر بين طرابلس والقاهرة، وانطلقت من مطار معيتيقة على تمام الساعة 14.40، رحلة الخطوط الجوية الأفريقية إلى مطار القاهرة مباشرةً، لتهبط فيه بعد ساعتين ونصف، مُنهية قطيعة وانقطاعاً دامت سبع سنين، وكنت لحُسن حظي من بين ركابها القليلين، بدعوة كريمة من الإخوة في مجلس إدارة الأفريقية، لهُم مني كل الثناء، وصحبة كريمة من إخوة طيبين، والشكر موصول لحكومة الوحدة الوطنية، التي أستطاعت عبر دبلوماسية المصالح المشروعة، أن تفتح هذا الخط من جديد، رغم تحفظاتي مثل الكثيرين على الإتفاقية الأمنية، التي تتعارض في بعض بنودها مع مبدأ السيادة الوطنية، وهي بنود وعد المسؤولون المعنيون بأن يتم تعديلها قريباً، فمطاراتنا مملوكة لنا، ولن نتنازل عن إدارتنا الأمنية لها لأي دولة، حتى لو كان الثمن تحمل بعض العذابات، ولاشك أن إخوتنا في مصر الحريصين على سيادتهم، سيفهمون ويتفهمون وينتهي الخلاف ويستمر التفاهم، وتعود مـصـر ولـــيـبـيـــا كما يريد المصريون والليبيون، إخوة متعاونين، ولعل الرئيس عبدالفتاح السيسي يأمر برفع قيد التأشيرة عن الليبيين، مثلما تفعل تونس الشقيقة حقاً، ومثلما لم ولن تفعل المغرب المتعالية، التي عليها وعلى دول الخليج المتغطرسة علينا، وعلى أوروبا المريضة العقيمة، يغيب الليبيون، ويحضر النواب والوزراء والأثرياء والمتهافتون.أكتب هذه السطور من القاهرة، اليوم الجمعة الموافق 1 أكتوبر 2021، في يومي الأول بعاصمة المُعز، بعد انقطاع اختياري عنها دام ثمان سنين وثلاثة أشهر ويومين، وسأعود بمشيئة الله غداً السبت إلى طرابلس، التي أحلم أن أراها وسنراها قريباً بإذن الله، وقد صارت عروساً جميلة بين حوريات لـــيـبـيـــا الجميلات، مدناً وقرى وأرياف، والتي وصفها الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر، في رائعته [بـلـد الـطـيـوب]، التي لحنها الموسيقار علي ماهر حفظه الله، وغناها المبدع الراحل محمود كريم /بـلـدي مـلاعـبُ أنـجُـمٍ تـأتـي الـمـسـاءْ لـتـقـولَ هـذي لـــيـبـيـــا بـلـد الـضـيـاء .