بقلم :: حسن المغربي
” ليس الكاتب بكاتب لأنه اختار التحدث عن بعض أشياء ، بل لأنه اختار التحدث عنها بطريقة معينة “
جان بول سارتر
الكتابة لحظة نادرة مثلالسعادة ، وكذلك الألم والحلم ، هي أيضا لحظات نادرة وغير متاحة في كل الأوقات ، الديمومة ليس لها وجود في هكذا حالات ، والكاتب الحقيقي يعلم هذا جيدا ،لا يمكن أن يخرج الشعر من الذاكرة كما في الكلام العادي ، وأيضا الفكرة ، من الصعب أن تنبثق أمام القاص بمجرد البدء في لحظة الكتابة ، إن لحظة الإبداع لا تخلق دفعة واحدة ، وإنما تأتي منجمة بحسب الطقوس ، تلك الحالة التي يكون فيها الكاتب أشبه بالساحر ، لا إراديا يخلق الأفكار ويقتلها ، يسجنها ، ثم يفك أسرها ، يأتي بالشيء واللا شيء ، كما لو أنه يحيا في كل الأزمنة ، تتلاشى في ذاكرته الصور التقليدية ، وتحل محلها أشكال جديدة ، لا يستطيع تسميتها أو التعبير عنها بصورة جيدة ، لكنها أكثر إلحاحا من الأشكال القديمة . لن أطيل في شرح ما يشعر به الكاتب وهو يبدع أو ما يفعله الساحر وهويقف على المسرح ويخرج من قميصه حمامة ، فهذا العمل من الأجدر أن يترك للأدباء والسحرة ، فهم أحسن من يتحدث عن السحر والأدب.
إن المتلقي أو القارئ الذي يتابع أعمال المبدعين حينما يقرأ نصا مختلفا لأحد الكتاب يشعر بالغبطة ، ويحترم صاحبه بغض النظر عما جاء في النص ، لكن حينما يقرأ أي قارئ نصا رديئا ، يشعر بالقرف حياله ولو كانت قناعة كاتبه تتناغم وأفكاره. لأن الكتابة فعل شاق ، تحتاج إلى ذهن حاد و جهد كبير ، أما الكاتب الكسول ، فلا يمكن أن يرضي القارئ بأي حال ، وإنما قد يسد أمامه كل الإمكانات الجمالية ويقتل ذائقته . يجب على الكاتب أن يكتب بالدم ، وسيكتشف أن الدم روح كما يقول نيتشه. “1”
لا وجود لكتابة دون مطبات وعوائق وهزيمة تلو الهزيمة ، أن التسامح مع الكاتب الكسول أشبه بالنفاق ، كما أن قراءة أعماله مثل الاعتراف بالخطيئة أو القبول بالعملة المزيفة.. يجب على الكاتب المبدع أن يجترح أكثر من طريقة في اكتشاف المجهول واختراق الممنوع ، إن كل من يحترم قوانين البلاغة يعد في نظري كاتب منافق ، يكتب بقلم غيره ، ويفكر بالطريقة ذاتها التي يفكر بها أهل الكهف ، أولئك الذين لا يعرفون الضحك .
القارئ دائما على حق ، مثل الزبون كما يقول التجار ، والكتب باعتبارها سلعة ، فإنها تخضع للتقييم والمساومة ، ولو كانت لدي سلطة على المطبوعات ، سأفرض على جميع دور النشر عدم طباعة أي كتاب في الأدب قبل أن يسأل صاحبه عن الموسيقا ، وبعد ذلك تعتمد كتاباته من قبل مجموعة كبيرة من القراء ، مثلما يحدث في مسابقة الغناء والرقص ، لأن الكاتب الذي لا يجيد الفن ، لا يحسن بطبيعة الحال كتابة الأدب .
التفكير بمنطق واحد في الكتابة ، طريقة ثقيلة ومملة ، مثل الضيف الذي لا يُحتمل ، يجب على الكاتب أن يظل خفيفا ، وإذا فشلت محاولته كإنسان كاتب ، لا بد من البحث عن فكرة جديدة بريئة من التكلف .
إن الكتابة طريقة في الحياة كما يقول ( فلوبير ) ، وبكلمات أخرى ، فمن خلال طريقة الكاتب في الحياة ، تظهر كتاباته أما أصيلة أو مبتذلة ، عميقة أو تافهة ، لأنه من المستحيل ، امتلاك لغة ثرية ، دون فهم واع لأبسط الأشياء اليومية ، لقد كانت ” فرجينا وولف ” تقول : يجب على الكاتب أن يكون حرا ، يصور الحياة كما يشاء دون ارتباط بالتقاليد أو اللافتات التي تملي عليه أشياء بعينها “2”، وبهذه الكلمات المتواضعة تكون كل الأشياء صالحة للكتابة ، ومن المفيد في هذه الحال إضافة الأداة التي يعبر عنها بالأسلوب ، فكلما كان نثر الكاتب متدفقا وصافيا ، ومفرداته شديدة البراعة ، وذات وقع حسن ، كانت أعماله ملهمة ، أما المادة أو الفكرة فما هي سوى انطباع يولد أثناء عملية الإبداع وقد لا تعني أي شيء .
ليس من المبالغة القول إن البحث عن المختلف واللا معقول في الحياة ، هو هاجس كل كاتب يؤمن بأن الأدب هو أفضل اختراع لمكافحة الرتابة والملل ، وأتجرأ على التأكيد بأنه ليس هناك استثناءات على هذه القاعدة ، ويكفى أن نرى كاتبا كبيرا مثل ( ماركيز ) يكتب من أجل أن يروي لنا كيف عاش الحياة ، ولا شك ، فإن من تبنى مثل هذه الغريزة ، لا يكتب ليعيش ، بل يعيش ليكتب.
إن الكاتب لا يولد كاتبا بالفطرة أو مختارا من الآلهة كما يقول الرومانسيون ، لأن الكتابة مثل الألعاب ، يمكن ممارستها حينما نتعلم أحكامها ، أما الإبداع فلا يمكن تعلمه ، لكونه لا يخضع لحكم ما أو قاعدة محددة ، وأقصى ما يمكن تعليمه للكاتب هو الاطلاع على أعمال المبدعين .
- ما الكتابة ؟
لماذا نكتب ؟ سؤال طرحه سارتر فيما مضى 3، وعلق عليه كثير من الفلاسفة والأدباء ، لقد كانت قضية الالتزام في الأدب ( فترة الستينيات ) أكثر أهمية من الأدب نفسه ، والأمر الذي يستدعى الكتابة هو في الحقيقة مثل البحث عن أشياء نلمسها في شعورنا قبل أن نحسها في وجداننا ، أننا لا نحتاج في حياتنا إلى إثارة المألوف واليومي ، بقدر ما نحتاج إلى الكشف والسؤال عن الشيء كما يقول هيدجر4، إن المقدس ، والعادات ، وكذا التصورات الكلية ، تطرح في أحاديثنا بلغة بريئة كما لو أنها من المسلمات غير قابلة للجدل ، أما التنقيب والحفر والتحليل مفهومات ليست جديرة باهتمامنا ، وذلك لارتباطها في عقولنا بالهدم والخلخلة ، فالتأويل ينظر إليه على أنه تدليس وهرطقة ، وكذلك التفكير المطلق يوحي باللانظام والتشظي ، هكذا يتصور كل من يدعو إلى وجهة نظر نهائية ، إذ أن الثبات في القيم ولو كانت طاهرة لا يعني في الواقع سوى القضاء على النقيض ، هذا على مستوى ثنائية الحق والباطل ، أما بالنسبة للتفكير الحر – وأعنى به تلك الطريقة التي تثير التناقض والحركة – هو في العادة يطلق على كل مناهض لسلطة ما أو ثقافة معينة ، ويحضرني في هذه اللحظة ، ما اثاره فلاسفة الحداثة البعدية ، لقد قام جاك دريدا بتفكيك اللغوس الغربي بدا من أرسطو إلى ديسوسير ، وهو على علم بأن التمركز حول الصوت المتمثل في إعلاء الكلام على حساب الكتابة ، يعد في الواقع تدميرا للحقيقة وليس العكس كما توهم أفلاطون ، ومن هذا المنطلق ، يكون جاك دريدا إلى جانب صاحبيه نيتشه و هيدجر ضمن الفئة المناهضة للعقل الغربي أو الميتافيزيقية الغربية .
إن الاستغناء عن الأفكار التقليدية قضية جوهرية لا يمكن الحط من شأنها ، لأن القديم يرتبط في المخيال الجمعي بالدين في كثير من الحالات ، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى تدليل ، وبالتالي ، فإن المناداة بتحرير العقل من عقيدة ما مثل المناداة بإلغاء الماضي وما رافقه من ثقافة وهوية وانتماء ، فالذات تبحث دائما عن الأصل ، وكذلك القبيلة ، والمجتمع ، والأمة ، إن التخلص من التقوقع من الوجهة العلمية هو اختراع طريقة أفضل للتفكير ، هذا ابسط تعريف للحداثة . وانطلاقا من الأدبيات الشعبية التي تكرس للقديم باعتباره الأصل ، وتغتال كل محاولة للتجديد ، فإن الترتيبات الجريئة التي تسعى إلى مجاوزة القديم ، فشلت بدورها مثل أي محاولة جابهت الفكر الأصولي واصالته المزعومة .
إن كتابة الأدب من رؤية الالتزام بقضايا الزنوجة و المقاومة و الإصلاح وغيرها ، هي في الأساس إخضاع الأدب إلى ايدلوجية ووجهة نظر معينة ، وهذا ليس من الأدب في شيء . يجب أن يكون الأدب بعيدا عن الانثيالات العاطفية ، وواجب الأديب أن يتحصن بقدر المستطاع ضد الانفعال ، فليس المهم ما يقوله ، ولكن كيف يقوله ، أو كيف يعبر عنه ، إذ أن الفن بصفة عامة ليس له وظيفة سوى إعادة الأشياء وترتبيها بطريقة أخرى ، وبلغة البرناسيين ، غاية الفن ليست اصلاحية ، فهو لا يهدف إلى أية منفعة ، بل إلى المتعة الجمالية الخالصة ، إن الجدل الذي حدث في القرن الماض حول قضية الالتزام هو في صميمه جدل بين الأيديولوجية والفن ، ومنشأ هذا الجدل كما يقول “عز الدين أسماعيل “هو أن الايديولوجية تمثل تفكيرا أو موقفا فكريا محددا ، في حين أن أفق الفن طليق 5، فالموقف الأيديولوجي لا يصنع العمل الفني . لقد حاول الزنوج وعلى رأسهم رتشارد رايت كتابة أدب يعبر عن التفرقة العنصرية في أمريكا ، وحاول العرب بعد نكبة 1948م اختراع أدب المقاومة ، وظل الفريقان يدعوان إلى الالتزام بالقضايا التي يكتبون عنها ، واصبح واجب الأديب هو تحقيق قيم الحق والخير ، بدل من تحقيق المتعة والجمال. ومن هنا تحول الأدب من صانع أمل إلى صانع ألم .
إن طبيعة الكتابة الأدبية تختلف عن الكتابات الأخرى ، فالأديب غير مطالب بالتعليم والصناعة ، وكذلك من سوء الفهم أن يُنظر إلى أعماله على أنها أعمال اصلاحية . لقد كتب ( غوتييه ) يوما ما :” ليست غاية الأدب أن يصنع حساء من جلاتين ، والرواية ليست زوجا من الأحذية دون خياطة ، والقصيدة ليست حقنة ذات دفع ٍدائم ومستمر ، والمسرحية ليست خط قطار حديدي أو أي شيء آخر يخدم الحضارة ويدفع الإنسانية في طريق التقدم”6 ، إذ أن ما نبتغيه من الأديب هو الإحساس بالحياة وبالتعقد البشري ، وأن إحساسا كهذا يهذبنا أكثر مما يفعل التنظير الأخلاقي الصريح .
إن سيطرة الضمير الأخلاقي والاجتماعي على النصوص الكلاسيكية ، كان العامل الرئيس في ارتباط الأدب بقضايا المجتمع ، ومن هنا ظهر شعار” الفن في خدمة المجتمع ” ، ومن ثم أصبح الأدب يوحي بالحقائق السياسية والاجتماعية بدلا من أن يوحي بجمال الوجود ، والفاشلون من الشعراء( كما يقول دي ليل ) يجهلون أن جمال بيت من الشعر هو مستقل تماما عن قيمته الاخلاقية أو اللاأخلاقية وفقا للعالم الذي يعبر الشعر عنه ، وأن خلق الجمال يقتضي صفات خاصة تفوق القدرة الإنسانية نوعا ما . ومن هذه الناحية بالذات نكمن غاية الكتابة .
- مدير تحرير مجلة رؤى
الهوامش :
- فريدريك نيتشه ” هكذا تكلم زرادشت ” ترجمة فليكس فارس ،منشورات المكتبة الأهلية – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1938م ، ص 62.
- انظر مقال ” الرواية الحديثة ” لفرجينيا وولف ” ضمن دراسات نشرت في كتاب ” نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث ” ترجمة وتقديم أنجيل بطرس سمعان ، منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1994م
- انظر كتاب ” ما الأدب ” لجان بول سارتر ” ترجمة : محمد غنيمي هلال ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، القاهرة ، د.ت .
- انظر كتاب ” السؤال عن الشيء ” لمارتن هايدغر “ترجمة : إسماعيل المصدق ، منشورات المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة الأولى ، بيروت 2012م .
- عز الدين إسماعيل ” الشعر العربي المعاصر ” دار العودة ، -بيروت ، الطبعة الأولى 1966م . ص 377.
- إيليا الحاوي ” البرناسية أو مذهب الفن للفن في الشعر الغربي والعربي ” ، دار الثقافة ، بيروت – لبنان ، الطبعة الأولى 1980م ، ص 16.