الكعك الفلسطيني

الكعك الفلسطيني

  • أحمد بشير العيلة

لم تصلني أية نكهة تحمل كل هذا الكم من الحنين وكل هذا الاستغراق في الدلالات كالكعك الفلسطيني، ولم أذق حلواءً يمكن أن أقف على زهرة حلاوتها وأطير نحو أفقٍ بعيد خلف الحكايات؛ كالكعك الفلسطيني، ولم أحصل على توازنات جمالية بين ما هو محسوس بحواسي الخمس وماهو مجرد بذكريات أمي وجدتي وجذوري كلها؛ كالكعك الفلسطيني…الأمر يتجاوز بك تذكر كل التفاصيل الجميلة مع العائلة أثناء إعداده وتناوله، الوقت، النكات والأصوات، الروائح التي تتسرب رويداً رويداً، وكل شيء. يتجاوز كل التفاصيل الصغيرة التي تم تخزينها بوضوح في ذاكرتك وتستعيدها لإضفاء ابتسامة على وجهك أو رسم دمعة على خدك، الأمر في الكعك الفلسطيني يتجاوز الحنين إلى التفاصيل الصغيرة الذي يشترك فيه أي صنف من الأطعمة مغلف بسلوفانٍ من الذكريات، الكعك الفلسطيني يتجاوز بك كل هذا إلى تاريخ من التكوين.للكعك الفلسطيني قدرة على أن يهبك حشداً من العناصر الجمالية المكونة للهوية، يمكن للكعك الفلسطيني أن يطرّز على حرير روحك تطريزة الثوب الفلسطيني الكنعاني بألوانٍ زاهية تراها وأنت تشتم رائحته المميزة التي يشيعها في المكان وهو على عرش الانتظار، له القدرة أن يتكلم بنفس اللغة مع تطريزة الثوب الفلسطيني، بل ويقول لصاحبته: “أحبك”.للكعك الفلسطيني قدرة أن يُجرِي في جسدك دماءً شابة لترقص الآن الدلعونا وتشعر بالفعل أن يدك اليمنى تُلوّح بمنديلٍ معطر، واليسرى مشبوكة في كف فتاة ناعمة من الجليل، تنظر إليك نظرة جانبية بعينين كحلاوتين وابتسامة تجبر أي ظلامٍ في روحك أن ينقشع.للكعك الفلسطيني قدرة على أن يجعل من قلبك قنديلاً مضيئاً يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء وهو معجونٌ في دقيق الحب وسميد اللهفة، زيت الزيتونة ذاتها التي كان الأنبياء يمسحون به جسمهم المُتعَب ليضيء، تكاد تصير قديساً وأنت تأكل الكعك الفلسطيني وبجوارك مريدوك من الأحبة وكوب الشاي بالمريمية.للكعك الفلسطيني القدرة على أن يُوسع رؤاك شرقاً فشرقا، تأخذك رائحة (اليانسون) لتسجد ركعتين قرب من يتذكرون هموم الذي لا بلاد لأبنائه مثلي، ويحملك (الهال) على خيلٍ مسومة مطهمة حِسان إلى أميرات فارس، ويتشاغب عليك (المحلب) لوز ذاك الكرز البري ليوقع بك بين حسناوات الشام بيتًا من شِعرٍ أنيق، وتلهمك حبات السمسم أن تلوّح إلى النجوم وأنتَ تقضم قضمتك الأولى من الطرف المحبب للعين.للكعك الفلسطيني القدرة على أن يجعل ذاتك شامخة كنخلةٍ في بيت لحم حين تقضم أول كعكة خارجة للتو من فرن الانتظار وأنتَ تراودها لتبرد، تقضم القشرة المقرمشة لتكشف وتتذوق التمر المقدس الذي عجنته السيدة مريم العذراء بعد أن تساقط عليها رطباً جنياً، تشعر أنك المسيح الفلسطيني وهو يتكلم في المهد أو حتى وهو يُجرجَر مصلوباً في طريق الآلام في القدس الشرقية.للكعك الفلسطيني انتماءٌ لا يوصف لكل غنج صبايا فلسطين.. وأنت تهم لتأكل كعكة، أنتَ تُقرّبها إليك لتقبّل ثغر فاتنة تفر من بيتين من ميجنا أو عتابا كغزالٍ محنكٍ في الغواية.. وأنت تمسكه؛ أنتَ تُمسِك سبابة زميلتك في الممر الأيمن للوله، ليتبادل قلباكما الحديث عن شيءٍٍ لم يأتِ بعد، كالانتصار مثلاً على عدوٍ قميء.للكعك الفلسطيني حكمة لا يملكها أي كعكٍ في تاريخ صناعة الفرح، منذ الفراعنة الذين أجادوا صنع أكثر من مائة نوع من الكعك، إلى الفاطميين والطولونيين الذين توّجوه قناديل للعيد، وحدثاَ لا يمكن أن يطل العيد من غير وجوده، لكن الحكمة هنا في الكعك الفلسطيني معجونة مع مكونات حنين امرأةٍ فاتت سنونها سنوات النكبة بحسرتين، عجينٌ من الدقيق والزيت والتوابل والوجع والدمع، عجينٌ اختلط فيه الحزن على وطنٍ لم يجدوه ذات فجيعة، اختلط مع الصبر على فراق الأحبة، والقهر من الغربة، امتلك الكعك الفلسطيني حكمة لا يمكن أن تذوقها إلا منه.الكعك الفلسطيني ليس مجرد حلواء لعيدٍ لم يحمل البشارة لي بالعودة، وليس مجرد عاداتٍ نجيد بها التحايل على الزمن والألم، وليس مجرد وصفة بمقادير تتناولها النساء في قصاصة تشبه رسالة مهربة، إنه أكثر من ذلك، إنه هوية غريب، وعنوان نازح، وموئل لاجيء وهدايا تخفف حزننا عُجِنت في السماء بأدي أمهاتنا، ونزلت مخبوزة من حرارة الشوق لوطنٍ لم يحضر العيد بعد

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :