بقلم :: عبدالرزاق بو كبّه ..شاعر وكاتب جزائري
لا نعرف عن ليبيا الكاتبة إلا تجاربَ قليلة في الشعر والسرد المكتوبين بالعربية الفصحى، ما يقودنا إلى طرح أكثر من سؤالٍ عن قصيدتها المحكية، المكتوبة بلهجتها المتموقعة بين مشرق ومغرب لا ندري إلى أيّهما هي أميل.
ولعلّ تجربة الزجّال محمد علي الدنقلي (1957) نموذج حيّ، كونها قدّت الشعر من شجرة القبيلة، وورّطته في أسئلة الحداثة. يبدي ارتباطاً عميقاً بباديته “زلّة”، وتمنحها قصائده حضوراً يشبه حضور “جيكور” في شعر بدر شاكر السيّاب.
لا تحضر زلّة عند الدنقلي بصفتها مسقط رأسٍ وإحساسٍ يملي عليه الحنين إلى البدايات، بل بصفتها فضاءً مزدحماً بالقيم الإنسانية والجمالية: “سَوْسَنَه خَجَلى نديّه/ تقدر تْقول المحبه/ مثل ما هيّ المحبه.. أيْوَا تقدرْ/ مهما كان الكون كبير.. هيّ أكبر”ْ.
في المقابل، تكتب بنغازي نفسَها في قصائد الدنقلي كمدينةٍ تحتضن خيبة المكان والإنسان، خاصّة بعد أن بادرت إلى أن تكون بؤرة التمرد وشرارته والمؤرّقة هذه الأيام بأسئلة المصير: “الحزن ما عنده وزن/ ولا تْطلعاش سنازي/ وأي حد يبي يعرفه/ ينشد عليه بنغازي”.
يهرب الدنقلي إلى تأنيث العالم، ليُطعّم إنسانه ومكانه ضدّ الإحساس بالقحط، قبل سقوط نظام القذافي والآن. ذلك أن المرأة في عينه نافذته التي يطلّ منها على الحياة، ومدخله الأثير إلى التعبير عن جدواها، فالمرأة عنده تبرّر البقاء في عالم غارق في الاحتراب: أنا وأنتِ/ وتراتيل الألم والليل.. ما نِمْنا/ مع الغفوة تخاصمنا/ وخَشّينا عوالمنا/ يساورنا سؤال حاير: زعم تزهر مواسمنا؟/ وتَبَسَّمنا.. أنا وأنتِ”.
إن أهمّ ما يميّز صورة المرأة لدى الدنقلي، سواء في دواوينه المطبوعة (“نثار الليل”، و”أبصر كيف” و”توحشتك”)، أو في منشوراته الإلكترونية، تحرّرها من النظرة الإكزوتيكية، في صحراء عربية موغلة في الكبت، وارتباطها بالسؤال الفلسفي الوجودي، حيث تصبح شريكة الشاعر في الاختيار والاختبار، اختيار المعنى، واختبار قدرته على أن يقول دهشة الكائن الحي.
أحال شغف الشاعر بالكتابة المسرحية، نصّه إلى لغة تعتمد الحوار في الوصول إلى متلقيها، وتنبذ الصوت الأحادي، رغم أنها موغلة في الذات، وهواجسها الممتدة من الوردة إلى القبر. فالصوت، كما يراه، متعدّد بتعدّد سامعيه، وليس واحداً بوحدة مصدره، لذلك فإن الحياة تموت حين يتنمّط أولادُها ويصبحون واحداً. “هاك وردة.. ربما سرّ الشذا/ يجعلك إنسان أكثرْ/ ربما تُدرك وجودك في الحياة /وكيف الحياة بالحُبْ أزهرْ/ أنتَ مش عابر سبيل/ تَنْوَلدْ، وتعيش لخظة/ ثم تُقْبَرْ”.
يرى الزجّال المغربي عادل لطفي أن تجربة الدنقلي تحفل بقيم جمالية، مشيراً قصيدة “الصحرا فيلسوف” بوصفها نموذجاً يختزل هذه القيم: هالصوت ما هو صوتي/ ولا هالسكوت سكوتي/ ونشعر أني عني غريب/ وهالبيت ما هو بيتي/ وحتى من الموت اللذيذ/ اللي كنت نحلم بيه/ مش حاس إنه موتي”.
تفترق تجربة الدنقلي عن التجارب الزجلية المغاربية بأنها نأت بنفسها عن التجريب المفرط وعن التقريرية التي أنهكت القصيدة المحكية في الجزائر مثلاً، واتخذت لها مقاماً يلخّصه قول “الثعلب الأسمر”: “واحدْ مايل يمينْ/ وواحدْ مايل يسارْ/ وأنا مايلْ عليَّ/ واللون حسب الجنون/ والدنيا هيَّ هيَّ”.
سبق نشره على صفحات مجلة العربي الجديد الألكترونية .. 12 أغسطس 2014