محمد عمر أحمد بن اجديرية / رئيس تجمع ليبيا الأمل
أفول مرحلة
(1) مرت ليبيا منذ نشأة الدولة بمفهومها المعاصر في مطلع خمسينيات القرن المنصرم بثلاث مراحل هي مرحلة دولة الإستقلال التي استمرت من يوم 24 ديسمبر وحتى صبيحة الأول من سبتمبر 1969 ومرحلة ثورة الفاتح التي استمرت من يوم 1 سبتمبر 1969 وحتى أواخر 2011 والمرحلة الثالثة التي بدأت من أكتوبر 2011 وحتى الآن.
والمتتبع لهذه المراحل يجد أن المرحلتين الأولى والثانية كانتا مرحلتين جديتين للتأسيس والتأصيل للمجتمع المدني وإن بطرق متباينة إختلفت في طرق التأصيل والمعالجة ومقاربة القضايا الجوهرية الأكثر إلحاحا. لكن المرحلة الثالثة والأخيرة التي لازلنا نعيش نهاياتها لا يمكن بأي حال من الأحوال إعتبارها مرحلة جدية لأن الدولة بمفهومها المؤسساتي والإجرائي قد غابا نهائيا عن المشهد.
1. دولة الإستقلال: قامت دولة الإستقلال على أكتاف ثلة من الوطنيين الليبيين الذين وظفوا المتاح من الإمكانيات المتواضعة في ظروف غاية في الصعوبة ووسط ظروف إقليمية تتسم بسيطرة إستعمارية وخضوع معظم دول المنطقة للهيمنة الغربية حيث تقاسمت بريطانيا وفرنسا إستعمار الدول العربية وكانت الحالة الليبية ذات خصوصية حيث استطاعت دول الحلفاء هزيمة دول المحور وتقاسم مستعمراتها وانتهاء الوجود العسكري الإيطالي من ليبيا إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وأصبح شمال ليبيا مستعمرة بريطانية (أو ما سمي ساعتها بالإنتداب البريطاني) مع بقاء جالية كبيرة من الإيطاليين المدنيين الذين يسيطرون على جل النشاط الإقتصادي بالبلاد. وقامت بريطانيا ببناء قواعد لها في الشرق الليبي في طبرق وفي الغرب في طرابلس، كما سمحت للولايات المتحدة الأمريكية بإقامة قواعد لها في الشمال الليبي، أما الجنوب الليبي فقد وضع تحت الإنتداب الفرنسي بحكم مجاورته للمستعمرات الفرنسية في الجزائر والنيجر وتشاد. في مثل هذه الظروف كان ساسة ليبيا الأوائل مدركين صعوبة الحصول على الإستقلال الناجز دون موافقة دول الإنتداب من هنا رأى معظم ساسة تلك المرحلة إتباع سياسة المراحل مع عدم إغضاب السدنة الكبار وهي السياسة التي اتبعها الرئيس بورقيبة وجماعته في تونس (سياسة خذ ثم طالب) وهي ذات السياسة التي اتبعها عبد العزيز آل سعود في المرحلة الأولى لإنشاء الدولة السعودية. الكتابات المنصفة التي تناولت دولة الإستقلال تقول أن وفدي برقة وطرابلس قدما أحد أروع العروض في أروقة الأمم المتحدة في مباحثات ماراثونية طيلة أربع سنوات استطاعوا فيها الحصول على الكثير من بريطانيا وفرنسا ولا سيما أن الأخيرة ظلت رافضة لأي شكل من أشكال الإستقلال حتى اللحظة الأخيرة. وحصلت ليبيا على استقلالها في ظل قواعد غربية يصعب تجاوزها لإعتبارات عديدة ليس المقام هنا مكان للحكم عليها. وشرع الآباء المؤسسون لدولة الإستقلال في سباق مع الزمن وفي ظل شح الإمكانيات وعدم وجود أي موارد للدولة الجديدة في العمل على توطيد أركان الدولة الحديثة، فتم في عقد من الزمن العمل على إيجاد دولة الكفاف وسط شعب فقير معدم تنهشه الأمراض والأوبئة، بل وحسب الأمم المتحدة عد الشعب الليبي الأفقر عالميا في ذلك الوقت. وهنا لا بد من الإشادة بالجهود الكبيرة التي قامت بها الحكومات الأربع الأولى قبل اكتشاف النفط والبدء في تصديره في مطلع العام 1962. العقد الثاني لدولة الإستقلال شهد طفرة نوعية في نوع الخدمات بفضل التدفقات النقدية الهائلة التي تدفقت جراء تصدير النفط بكميات كبيرة حيث أقيمت بعض المدن الحديثة حينها بكافة مرافقها وتم تمدين وتوطين كثير من البدو الرحل عبر إنشاء مدن سكنية في العديد من القرى والواحات وموطن سكناهم أو ترحالهم.
2. الحقبة السبتمبرية : الحقبة السبتمبرية والتي انطلقت مع ثورة الفاتح جاءت كردة فعل على أمرين رئيسيين هما وجود القواعد الغربية التي تنتقص من السيادة الوطنية وترهن القرار الوطني لإملاءات الغرب، و الأمر الثاني نمو طبقة جديدة من القطط السمان من كبار موظفي الدولة الذين استغلوا عطاءات الخطتين الخمسيتين الأولى والثانية لتراكم ثروات هائلة بدون وجه حق. وشهدت الخطتين الخمسيتين الثالثة والرابعة طيلة عقد السبعينات من القرن المنصرم واحدة من أكثر خطط التحول نجاحا في العالم الثالث حيث حولت وللأبد الصورة النمطية لليبيا الفقيرة إلى دولة ريعية تجسد فيها الرفاه المادي للمواطنين في أبهى صوره وفي هذا الصدد تلقت ليبيا اشادتين، الأولى من منظمة اليونسكو في 1978 والثانية من منظمة الصحة العالمية 1980 للتعبير عن جودة النظامين التعليمي والصحي في ليبيا، إلا أن التدفقات النقدية الهائلة التي توفرت عند ليبيا بعد حرب أكتوبر والإرتفاع الكبير في سعر برميل النقط الذي ارتفع من أقل من 3 دولارات إلى حوالي أربعين دولار جعل ليبيا فجأة تمتلك رساميل ضخمة فتحت شهية النظام السبتمبري للعب دور إقليمي وقاري ودولي يتجاوز إمكانيات ليبيا، مما جعل الدولة تدخل في سلسلة من الأحداث السياسية والعسكرية كان لها انعكاس سلبي على الداخل الليبي تجلى في توقف مسارات التنمية عند العام 1980 وزادها الحصار الجائر الذي فُرض من طرف الغرب الاستعماري على ليبيا طيلة عقد من الزمن واستشراء الفساد في كثير من مفاصل الدولة وإحكام الدولة قبضتها على كافة مناحي الشأن العام عبر جهاز استخباراتي محكم.
3. حقبة فبراير : تزايد حجم الفساد و شرعنته وتكميم الأفواه والقبضة الأمنية الصارمة وكبت الحريات العامة والخاصة وتدني مستوى الخدمات وتردي البنية التحتية التي توقف تجديدها وتطويرها منذ عقود ثلاث والمركزية الصارمة التي أدت إلى إهمال منطقة الشرق تحديدا، هذا وغيره كان وراء نقمة العديدين ومعارضتهم للنظام السابق. الشيء الذي جعل القوى الدولية والإقليمية تقوم بالتحضير لهزات كبرى بدؤوها بالجارتين تونس ومصر لتصفية حساباتهم مع النظام السابق، فكانت أحداث 17 فبراير التي تحولت مع الوقت إلى حرب أهلية بين الأطراف الليبية تم خلالها انتهاك حقوق الإنسان بشكل غير مسبوق، يرقى في بعض الأحيان إلى جرائم حرب، حيث تم التنكيل والقتل والتعذيب من قبل الأطراف المختلفة والإعتقال على الهوية والتطهير العرقي الذي وصل حد الإبادة الجماعية والسجون السرية والعلنية خارج الأطر الشرعية وانتشار معدل الجريمة والإقتتال والإحتراب بين اكثر من مكون من مكونات النسيج الإجتماعي الليبي مع موجة فساد قياسية أتت على مدخرات الأجيال في بحر أربع سنوات! هذه الأجواء الموبوءة شكلت أرضية للإرهاب العابر للقارات ليجد في ليبيا أرضية خصبة لينمو ويتغلل ويتمدد حيث كانت ليبيا نقطة استراتيجية للتزود والتدريب مع توفير غطاء شرعي له من خلال تيارات الإسلام السياسي التي سيطرت على مفاصل الدولة منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام السابق. وفي غفلة من الفرقاء المتحاربين على تقاسم الغنائم والنفوذ، تمدد الوجود الإرهابي حد بسط سيطرته بالكامل على مدن كدرنة وسرت وصبراتة وتقاسم النفوذ في مدن بنغازي واجدابيا وأوباري وطرابلس والزاوية.
.يتبع في الحلقة الثانية (لعبة الأمم)محمد عمر أحمد بن اجديرية. 04 أغسطس 2015