المقهى

المقهى

  • أحمد قشقارة

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة…

سألملم أوراقي وأخفيها في جيب معطفي

أوراقي التي كتبت عليها نصاً عنوانه:

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة….

سأدفع فاتورة الحساب

نعم لا أحد يخرج قبل دفع الفاتورة

لا أعرف لماذا سأترك للنادلة السمراء بقشيشا

ليس شهامة أو كرما

ربما غرورا وعجرفة….

وقبل أن أخرج

سألقي نظرة أخيرة على المقهى بكل تفاصيله

ولأنني لا أحب كلمة ” أرتشفُ ” التي يستخدمها المثقفون

سوف ألعق طحل القهوة

القهوة المرّة المتبقية في قعر الفنجان

الفنجان الذي دفعت ثمنه في فاتورة الحساب

الحساب الذي أضفت إليه بقشيشا للنادلة السمراء..

لا شيء يمكن أن أنساه على الطاولة

فأنا لا أملك إلا علبة سجائر شارفت على نهايتها

وبعض الأوراق التي كتبتُ عليها نصا عنوانه:

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة…

من المؤكد أنني لن أنشر هذا النص

فقد كتبتُ فيه عن أشياء كثيرة

أشياء لا أجرؤ على البوح بها..

كتبتُ عن المرأة الأربعينية التي كانت تجلس قبالة طاولتي

ولم تكفّ عن مغازلتي

ولأنني تعمّدتُ ألا أعيرها انتباهي

شتمتني بكل ما تحفظه من ألفاظ في قاموس الساقطات

ثم خرجتْ وألقتْ بنفسها وسط الشارع فدهستها سيارة عابرة..

كتبت عن الطفلة المسكينة المتشردة التي كانت تبيع المناديل

فلحقتُ بها إلى زاوية معتمة من الحديقة العامة وسرقتُ غلتها

ثم خنقتها ورميتُ جثتها في بالوعة الصرف الصحي دون أن يراني أحد..

كتبتُ عن شحنة المخدرات التي نقلتها إلى جينيف

وكيف تمكنتُ من تهريبها عبر مطار بيروت

بعد رشوة مجزية لضابط أمن المطار

ولكن رجال المافيا في سويسرا بعد استلام الشحنة

غدروا بي وحاولوا قتلي فهربتُ

وتهتُ في الصحراء المغربية مدة شهر

تعايشتُ خلالها مع العقارب والأفاعي وشجيرات الصبار الشوكية

قبل أن أصل إلى مراكش..

مراكش… تلك المدينة التي لا تشبه أي مكان في العالم

هناك… انضممتُ إلى مجموعة السحرة والمشعوذين والطبالين والزمارين

وعملتُ مُرقٍصا للقرود في “ساحة الفنا”……

وفي النص الذي وضعت له عنوانا:

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة….

كتبتُ أيضا عن صديقي الذي تعرفت إليه في جبل الشيخ

أثناء الخدمة العسكرية…

كنا نشعل النار فوق أكوام الجليد

ونقضي الليالي الباردات الطويلة

نشرب النبيذ البلدي المعتق لنقتل البرد والوقت المُمل

بدل أن يقضي علينا البردُ والوقتُ…

كان صديقي يبكي وهو يحدثني عن عشقه لتشي جيفارا

وكان يحكي لي عن بطولاته التي خاضها في شريط أوزو

أثناء الحرب الليبية – التشادية…..

بعد فترة عرفت أنه مات في سجن تدمر…

جبل الشيخ.. جيفارا.. تشاد.. أوزو.. جليد.. نبيذ.. ليبيا…تدمر…؟!

هراء وهذيان يليق بنص عنوانه:

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة….

النص الذي كتبت فيه أيضا

عن خمارة ” أم فراس ” في منطقة الحجر الأسود

وكيف كانت تتحول الخمارة آخر الليل إلى بيت للدعارة الرخيصة

يرتادها كشاشو الحمام والفنانون المغمورون

والشعراء الفاشلون واللوطيون والصحفيون المرتزقة..

كتبتُ عن القوادين واللصوص وأصحاب العباءات والعمائم

وقادة الفصائل والكلاب والعرصات والقحبات

كتبتُ عن سماجة صاحب السماحة وعكرتة صاحب الغبطة

وعن الإشكاليات السخيفة وسخافة الإشكاليات

في الشعر الحديث وشعر التفعيلة وقصيدة النثر وهرطقة النقد والنقاد

كتبت عن الطغاة والجلادين الذين أخطط لقتلهم

وعن المدن التي أنوي تدميرها

كتبت عن تجربتي في جبال أفغانستان

وعن الزنزانة التي اعتقلتُ فيها في بولندا

ثم حفرتُ نفقا بالملعقة تحت جدار الزنزانة وهربتُ…

كتبت أيضا عن أشياء أكثر خطورة وقذارة في النص الذي عنوانه:

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا.. كما دخلته أول مرة….

ولكنني لن أنشره..

سوف يقرأ الجميع هذا النص التافه

وربما تسألني زوجتي عن المرأة الأربعينية التي كانت تغازلني

وربما يلاحقني الانتربول بتهمة الجرائم التي اعترفتُ بها

ولن أجد ما أدافع به عن نفسي إلا أن أقول لهم

نحن معشر الشعراء لسنا سوى مجانين معتوهين أفّاقين كذابين أوغاد..

وهذا النص لم يكن إلا هذيانا لشاعر تافه كان يجلس قربي في المقهى

كتبه ثم نسيه فوق الطاولة..

أما أنا فقد قررت أني

بعد قليل سوف أغادر المقهى

وحيدا… كما دخلته أول مرة….

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :