تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
سعاد سالم
أعرف العنكبوت ذو السيقان الطويلة، وفي طفولتي متى ما قابلته لا أخشاه ، من يخشى كائنا ضئيلا مثل نقطة تخرج منها ثمانية خطوط، أحيانا ألعب معه قبل أن يلقى مصيره، لكن الرتّيلة تلك المخلوقة المختلفة الأحجام والألوان فأنا لست فقظ أخشاها بل وأتقزز منها وأعاملها كعدو لأن حناي علمتني أن لا أسمح لها بقرصي، وأخبرتني مرارا أن أحفظ الملح ،أن أغطي فازو الملح: ردي بالك تكّش فيه الرتّيلة.( تدريب على عدم الهزوة).
صُمعة العنْ كْبوت
لم تنقذ سمعة العنكبوت أنه بنى بيته على مدخل غار ثور الذي اختبأ فيه الرسول مع رفيقه الصدّيق كما في الرواية، ورغم أن الحمامة قد تكون أليفة حتى أنها لن تخشى الاقتراب من عشها وإن وجد بالقرب منها بشر ،غير أن شبكة العنكبوت دليل أكبر على انتفاء فرضية وجود الرجلين داخل كهف مدخله مغطى بخيوط الرتّيلة، وللحقيقة في السيرة التي أعتقد أنني قرأتها في كتاب بالصف الثالث الابتدائي، لم يخطر في بالي أن ذاك العنكبوت هو نفسه الرتّيلة التي تحذرني منها حنّاي، ويخشاها الثرات الصحي للمجتمع، بل حتى أن ليس من أثر لاحترام النقطة الضئيلة ذات الثمانية خطوط وطبعا ليس هناك أي تقدير للرتّيلة ذات الثمانية عيون وثمانية أرجل قصيرة مغطاة بالوبر إلا كعدو، ظل في الخيال العام حسبما أتصور أن وجود خيوط العن كبوت في مكان ما، إنما هو دليل على أن الأمكنة مهجورة ، وإن رؤيتها في البيوت تعني بوضوح أن البيت ليس نظيفا، أو بتعبير ألطف حوش مُهمَل، إذاٌ ياللسمعة السيئة لمن أنقذ نبي!
ميراث الهزوة
في 2016 كانت أول مرة يثير فيها الكائن الضئيل الرتّيلة فضولي ،ويجعلني أعيد النظر في شخصية العنكبوت، هل قلت شخصية؟ نعم بالتأكيد، إنه بالنسبة لي كما لو كانت تجمعني به طفولة بعيدة متشنجة وبها عداوة وتنمر، ثم فجأة نلتقي كبالغين وجها لوجه، فيتأمل كل منّا الآخر متذكرين الكراهية الزّمنية دونما ضغينة، ففي أحد الصباحات من ذاك العام هنا في روتردام ،و لأنني بعد يومين مكوث في بيتي صادف أنني لم أفتح فيهما بابي، أنه وفي اليوم الثالث من أقابل وأنا أتجه للخارج؟ إي نعم، شبكة عنكبوت تصل إلى منتصف الباب.
في ظهر أحد الأيام من عام 2018، كنت أردت شيئا من القلالية، وكبّهت بسرعة، فاصطدم وجهي بما بدا أسلاكا رقيقة جدا كأنها أسلاك صنّارة، كنت مصعوقة، شبكة عنكبوت؟ لا أصدق، حتى أنني لم استوعب ذلك، لكنني قررت أن أتعرف على هذا الكائن الذي برغم سورة في القرآن بسمه، وحمايته للنبي الذي جاء بالقرآن، غير أنه صاحب البيت الأوهى، لربما وراء هذا التلميح كما الحكمة دائما رواية تقول: لاتهزأ، إياك أن تهزأ من الضئيل ، من الواهن، لأنني لم انسَ رسالة حناي في ذات السياق :ردي بالك من كشّة الرتّيلة في الملح، والملح هو كل الطعام، والزاد في لغوتنا.
شوية تاريخ وسياسة وتأمل
الرتّيلة النسّاجة :
في غمرة التنبه لهذا المخلوق الذي كنت أراه قبيحا، بحثت عن معلومات عنه وقادني الفضول للسؤال هل له دلالات في الحضارات المختلفة؟ لأن الناس في الأزمنة القديمة صنعوا ايقوناتهم للكثير من الكائنات التي عاشوا معها غير أن العنكبوت شخصيا لم أرَ له أثرا مرئيا حتى الآن، إلا في صيغة شبكة أو خيوط ، يشبه في تحاشي صورته سرقة فكرة من صاحبها،لأن بحثي البسيط افضى إلى أن للعنكبوت دلالات في حضارات مختلفة حول العالم، وإن لم تُذكر صراحة، أعني لم تتشجع على رسمها على الحيطان أو نحتها أو حتى صناعة اكسسوارت في صورتها ولم تُعبد كآلهة على ما أعلم ، ومع هذا أثر خيوطها وعبقريتها في النسج، كانت طريقة متبعة من البشريات اللاتي تفردن بنسج البيوت واقامتها في مجتمعات الترحال،وبصورة أخرى في الثقافة الاجتماعية والجندرية للمجتمعات كافة، فألأنثى هي التي تنسج الشبكة المحكمة والبديعة تلك، حتى في العلاقات ، ولأنه وكما رأيت فنيات العنكبوت في مسدة حنّاي ، بالتأكيد الغالبية منكن ومنكم رأى مسدة جدته ، وتاريخيا في كسوة الناس بالكتان والقطن والحرير والكشمير، لهذا دور العنكبوت في مسألة الستر الذي رسخه في بيئة الانسان حاسمة وله براءة الاختراع دون شك، لأن الانسان حسبما يظهر في الميثولوجيا الجمعية قبل مايماري العنكبوت كان يتغطى بورق الشجر ويحتمي بها وبالكهوف وينام فوق الأسطح القاسية، حتى النبي يونس،غطته أوراق القرعة الحمرة (اليقطين) بعدما لفظه الحوت.
الرتّيلة المُلهمة:
بدأت علاقتي تتحسن بالرتيلة منذ أن التقيتها في ذلك الصباح من عام 2016 كما ذكرت، بل جعلتني أعيد التفكير في رواية نسج العنكبوت لشبكتها والتي تنشرها للصيد كما تعلمن وتعلمون، لأن بيت الرتّيلة شخصيا تحميه هذه الشبكة لأنه عبارة عن كرة من النسيج تخمد فيه نهارا وتخرج منه ليلا أو كل ماتخف الرجِل، قلت جعلتني أعيد التفكير في جزئية سرعة نسج العنكبوت لشبكتها، لماذا لايعرف تابع الأثر ورهط من كفار قريش شيئا عن العنكبوت؟ أم أن للمشهد زاوية أخرى تقول أيضا أن من طاردوا النبي أفشلتهم الهزوة، وأن ليس ثمة ما يهزم أكثر من الهزوة على الضعيف و الضئيل والصغير وعلى رجلين وحيدين في الصحراء الواسعة؟
استراتيجيات نظام الرتّيلة:
إنه نظام عمل متكامل، وترجمة حرفية لإجابة سؤال كمايبدو خطر على بال الكثير من رجال الأعمال، والسياسيين، وعلماء الاجتماع والحكماء وحتى الذين ينشدون الحرية وذلك من باب اعرف عدوك.بالنظر حولنا سنرى كيف تبنى الخطط والحيوات والأعمال والبلدان والصراعات والرأي العام والسيطرة والقيادة والتطور والحروب و كل مايخطر بالبال، وذلك على فكرة واحدة هي شبكة العنكبوت، بل بعضها أخذ الاسم حرفيا واضاف عليه : شبكة التسويق، شبكة الاتصالات ، شبكة الانترنت، شبكة المواصلات، شبكة الصيد، وكلها بحلوها ومرّها ، بخيرها وشرها هى خيوط شفافة لامعة وأقوى من الفولاذ كما توصف شبكة العنكبوت تماما ،إذ أن خيوط نسيجه حريرية لينة وقابلة للتمطيط ب 20% من حجمها دون أن تتمزق كما جاء في وكيبيديا ، وأنها رغم شدة رقتها وشفافيتها تصنّف على أنها أصلب الألياف الطبيعية على الاطلاق وتسمى بالفولاذ البيولوجي ، وأرى أنه بفكرة الفولاذ هذه يحكم الناس بعضهم بعضا بالشبكات التي لا نراها، وتنبئ عنها الفرائس.
نسيت أقول أن العنكبوت يرمز في أغلب الحضارات إلى الحكمة والحذر والإبداع والحياة.
لذا في المرة القادمة حينما تصادفكن/كم نقطة بثمان خطوط، أو أخرى بثمانية عيون وثمانية أرجل موبّرة، فقط اكنسوها للخارج إن أمكن، أو على الأقل لاتأخذكن/كم العزة بالهزوة ، ولأن المعلّم الكبير خليفة الفاخري كتب: لاتسخر من أحد حتى الكلاب، سأنسج على المنوال ذاته ، لا تسخر من أحد حتى العن كبوت.