اليوم خمر .. وغداً أمر !

اليوم خمر .. وغداً أمر !

فريد الحجاجي

كانت هذه صرخة (امرؤ القيس) عندما وصله خبر مقتل والده على يد بني أسد ، وهو الذي كان قد خلعه من قصره الملكي بسبب مجونه واستهتاره ليجد نفسه فجأة حاملاً لثأر ابيه ما جعل حياته تنقلب من النقيض الى النقيض ..

تذكرتُ قولته الشهيرة هذه خلال رحلتي الى بلاده (نجد) وبالتحديد الى (الدرعية) العاصمة الاولى للدولة السعودية التي نشأت عندما ناصرَ (محمد بن سعود) دعوة التجديد الديني التي نادى بها (محمد بن عبد الوهاب) وكان ذلك في سنة 1744 م ، واستمرت الدرعية مقراً للحُكم والعِلم لمدة ثمانين عاماً انتقلت بعدها العاصمة الى مدينة الرياض ولا تزال كذلك الى يومنا هذا ،،

عند دخول الطائرة لأجواء المملكة رأيتُ الصحراء تمتد وكأنها بلا نهاية تتخللها بين الفينة والاخرى بعض المنشآت الصناعية التي تبدو كبقع داكنة في بحر من الرمال ..

كانت تمتلكني رغبة قوية وفضول عارم لزيارة (بوابة الدرعية) التي تُوصف بأنها من أضخم المشاريع الثقافية والتراثية في العالم والتي تهدف لجذب 25 مليون زائر سنوياً ، وهي جزء من المشاريع الطموحة لولي العهد الشاب الامير محمد بن سلمان الذي يعمل على اعادة صياغة السعودية ضمن خطة أسماها (رؤية 2030) ، والذي قد نتفق أو نختلف معه فيها ، ولكن من المؤكد ان ما يقوم به سيكون له تأثير ليس على دول الشرق الاوسط فحسب وانما على الدول الاسلامية والمسلمين حول العالم !

بعد هبوط الطائرة بنا في مطار الرياض واتمام الاجراءات اتجهنا الى الهوتيل عبر طرق واسعة وحديثة ولكنها مزدحمة بشكل لافت ، انها المرة الاولى التي تطأ فيها قدماي الاراضي السعودية .. لاحظت في الطريق ان اغلب البيوت نوافذها صغيرة وان الڤلل محاطة بأسوار عالية ، وربما يعكس ذلك طبيعة المجتمع السعودي المحافظ ، كما لاحظت انه ليس هناك اهتمام كبير بالمناطق الخضراء والتي اغلبها عبارة عن أشجار نخيل ..

في بهو الهوتيل المبني على الطراز الفرنسي الرفيع وقبل ان أقدّم جواز سفري كان في استقبالي كأس من عصير الفواكه وباقة ورود مخصصة للترحيب بالنزلاء الجدد ، موظفو الاستقبال شباب سعوديون يرتدون الزي الوطني ومعاملتهم في منتهى اللطف والاحترام ، لاحظتُ أيضاً وجود المباخر جنب المصاعد لنشر الروائح العطرية في ارجاء المكان على مدار الساعة ، وعندما حلّ المساء كانت الموسيقى الحية ترافق نزلاء الهوتيل اثناء تناولهم العشاء في اجواء مريحة وغير متوقعة !

لم يكن لدي الكثير من الوقت ، لذا اتجهت في الصباح التالي الى (بوابة الدرعية) حيث اعمال التطوير تسير على قدم وساق لتحويل المنطقة الى ايقونة للدولة السعودية كضاحية ثقافية سياحية وترويحية على مستوى عالمي مع الابقاء على الطراز (النجدي) العتيق لكل المنشآت حتى الجديد منها، ولهذا الغرض أُقيم مصنع لانتاج 180 مليون قطعة حجر طينية لاستعمالها في ترميم المباني التراثية وبناء المنشآت السياحية اللازمة للمشروع على نفس الطراز .. كل شي في هذا المكان ينبض بعبق التاريخ ليربط وجدان الاجيال بماضيهم العريق وبهويتهم الوطنية ..

اتجهت بعدها الى مقر مؤسسة بينالي الدرعية والذي كان عبارة عن خلية نحل تعمل ليل نهار لتحضير النسخة الثانية من بينالي الدرعية للفن المعاصر تحت شعار (ما بعد الغيث) ، ومما أثار انتباهي العدد الكبير من الشباب السعودي المشارك بحماس وحيوية يساندهم في عملهم بعض الخبراء الاجانب ، وقد وجدتُ كل الترحيب والكرم من قِبل اعضاء الفريق بصورة لم أكن أتوقعها والتي تركت في نفسي جميل الاثر !

بعد انقضاء فترة الغداء وحضور شرح مطّول ومفصل لهذا الحدث الفني المميز (الذي تقام فعالياته هذه الايام بنجاح ملحوظ)، قضيتُ بعض الوقت في (منتزه البُجيري) وهو أحد احياء بوابة الدرعية ، المكان مريح وهادىء وأغلب زواره من العائلات السعودية ، يضم مناطق خضراء ومطاعم وبحيرات وشلالات ومقاهي وممرات للتنزه وساحات للفعاليات وللعروض الفلكلورية الحية .. لم أدع الفرصة تفوت لاحتساء فنجان من القهوة العربية مع حبات من التمر السعودي اللذيذ !

ودعتُ الدرعية عند الغروب وانطلقنا في شوارع الرياض المكتظة بالسيارات ، لاحظتُ عدد قليل جداً من السيدات يقدن السيارات بمفردهن .. مررنا باحياء تضم القصور الفخمة واخرى تضم البيوت الشعبية الفقيرة ، كانت هناك ايضاً ظاهرة بدء انتشار ناطحات السحاب التي اصبحت تستهوى العرسان الجدد من السعوديين ليس فقط كسكن وانما كطريقة حياة مختلفة ومعاصرة ، وقد يبدو هذا واضحاً في تزايد ارتياد الشباب للمناطق المميزة التي تضم احدث الموديلات واشهر الماركات العالمية واجمل المقاهي ، مثل منطقة ڤيا رياض Via Riyadh التي اختتمت بها رحلتي القصيرة للسعودية !

اتجهت للمطار وقد ازداد لدي الفضول لمعرفة المزيد عن هذا التغيير الحقيقي والعميق الجاري في البلد ، لقد تمّ اسناد العديد من المناصب القيادية في كافة المجالات الى فئة الشباب من الجنسين على الرغم من نقص الخبرة لدى البعض وقلة الالتزام عند البعض الاخر ، وهو ما يوحى باعتماد استبعاد تدريجي للمعسكر القديم وضخ دماء جديدة وشابة في دوائر الدولة ومؤسساتها ..

ما يحدث في السعودية يتجاوز ما نراه من صور الفنانين في الحفلات الموسيقية أو صور لاعبي كرة القدم المشهورين في صولاتهم وجولات زوجاتهم .. ما يحدث في الواقع في هذا البلد اكبر من ذلك بكثير وعلينا الانتظار لنرى .. فإن غداً لناظره قريب !

فريـدة

#الحياة_تبدأ_بعد_الستين

..

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :