محمود السالمي
قراء فسانيا الاعزاء :
كثيراً ما يعتقد البعض من المهتمين والمتتبعين لمسيرة الأغنية الشعبية ، أن الأغراض التى قيلت فيها الأغنية الشعبية لا تتعدى الأغراض المعروفة من غزل وحب وهيام ووصف للحبيب والحالة التى ترافق العشق عادة من تفكير وسهر وسهد ، واكاد اجزم أن من اعتقد هكذا اعتقاد هو مخطى تماماً ، لسبب بسيط يتعلق بأن الأغنية الشعبية تعدت هذه الأغراض وارتبطت بالعديد من المعاني النبيلة السامية التى تناولها الشعراء فى أغانيهم .. ويكفى أن نعرف أن شعراء الأغنية فى الواحة استخدموا الأغنية فى تمرير المواعظ والنصيحة ، وإفادة من يستمع للاغنية بتقديم خلاصة التجارب الحياتية فى فيها .. والأغنية بهذا المعنى هي طريقة وأسلوب من أساليب التوجيه والإرشاد لمن تنقصه الخبرة ، ولان الأغنية عادة ما تتصف بالسهولة وبساطة الألفاظ ووضوحها وقربها من البيئة الاجتماعية المحلية فهي تتصف بالقبول عند الجميع ، ولأنها تتردد فى كل مناسبة فرح فهي تضل راسخة فى الأذهان قريبة من الذاكرة وبإمكان الجميع استرجاعها فى اى وقت يشاء لذلك تضل دائمة التأثير .. فى حلقة هذا اليوم سنتحدث عن النصيحة فى الأغنية الشعبية ، لنعرف كيف أن الأسلوب البسيط للنصيحة يجعلها اكثر تأثيراً وقبولا ومن أغانينا التى اشتهرت فى هذا المجال قولهم :
خوذي النصح ياعينى ونامي وديري عزم لين تلقى قسامى
فهو هنا وببساطة شديدة يخاطب العين التى هي السبب الأول لكثير من الانزلاقات ومنها وبها تبدأ نظرات المحبة وعبرها تمر أيضا إشارات الكراهية وفيها يقرأ الإنسان مشاعر الآخر اتجاهه .. فهو هنا يخاطب العين ويطلب منها أن تستمع لنصيحته وان تهدأ وتخلد للنوم وان تصبر الى حين يقضى الله امراً كان مفعولا وان تعزم على هذا حتى يأتى مقسم الأرزاق بنصيبها .. ومطلع الأغنية هو فى النصيحة ولكنه يعبق برائحة الحب والعاطفة ، إذ يبدو أن الشاعر قد مل التفكير والسهد ليلا وهو قلق على مصير علاقته بمن يحب ، وهو فى النهاية استسلم للأمر الواقع حين ارجع كل شى إلى ما يقدره الله ، وهو ما تحث عليه مفردات الموروث الشعبي فى القول الشهير :
اللى أيكونه الله بيكون واللي ايصيره الله صاير
واللي حابك ويش بيدير واللي كارهك ويش داير
ثم يواصل ليقول :
خوذي النهو منى ويكفى من أقوالك والتمنى
عمري تم وانتِبَا أتغني وقول الفم ما يبرى غرامي
يطلب الشاعر من عينه هنا أن تأخذ ما يمليه عليها من نهى .. وفى اللهجة العامية تقلب الياء الفصحى إلى واو لتصير كلمة ( النهى ) إلى ( النهو ) وهى من تصريفات اللهجة ، وهو يدعوها إلى الكف عن متابعة الأمنيات الخادعة التى لاتسمن ولاتغنى من جوع وهى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ( يكفى من أقوالك والتمنى ) ويشير إلى أن العمر صارت أيامه تتسرب كتسرب حبات الرمل بين الأصابع ولم يعد هناك متسع من الوقت يقضيه الإنسان جرياً وراء أحلام قد لا تتحقق وسينتهي العمر يوما ما فلماذا الاستمرار فى التغني بصفات الحبيب والوصول اليه مشكوكاً فيه ( عمري تم وانتِ با أتغنى ) ثم ( قول الفم ما يبرى غرامي ) فقول الفم واللسان يظل مجرد قول لا يقدم ولا يؤخر ولا يؤثر فى الواقع شيئاً وتظل الحقيقة الواضحة هي أن الحب والغرام لا يستمر بمجرد الأقوال وانما هو بحاجة للأفعال ليزداد رسوخاً .
خوذ منى نهاتى وراو الصمت باهى والسكاتى
لين القسم غصب عليه ياتى اطولى من تبيه بلا زحامى
يتمنى الشاعر فى هذا البيت على النفس أن تأخذ منه ( نهاتى ) اى ما أنهاك عنه ويشير إلى أن الصمت فضيلة يحث عليها ، والسكوت زين فى مواضع السكوت ، قد يلتزم الإنسان الصمت ليس ضعفاً وانما أملا فى أن يغير الله امراً كان مفعولا لذلك قال ( لين القسم عصب عليه ياتى ) اى حتى يشاء الله تحقيق المراد وعند ذلك فأن نصيبه فيمن يحب سيأتي صاغراً وغصباً عنه انصياعاً لامر القدرة العلية وحينئذ ( اطولى من تبيه بلا زحامى ) اى تصلى لمن أردته دون ان يكون هناك من يزاحمك فيه .
خوذ منى النصيحة وراو العزم بيه تبدى مليحة
وكمي السر عن كبر الفضيحة لين أيهب عونك بالتمامى
يطلب الشاعر هنا من النفس أن تسمتع إلى نصيحته وتأخذ بها وان تتخذ قراراً ويكون عزمها هذه المرة قوياً لتحقيق ما تريد ، فقوة العزيمة من الاشياء المرغوبة فى الانسان وتزيده ملاحةً فى عيون الاخرين ( وراو العزم بيه تبدى مليحة ) ، يؤكد انه لا داعي لان يعرف أحد بما حدث وبما قرره لئلا يشمت به الآخرون هو يرى أن هذا سر يجب المحافظة عليه خوفاً من افتضاح أمر حبه فينكشف المستور فى علاقته ( كمي السر عن كبر الفضيحة ) وكلمة ( كمي ) اى إخفاء وهى لفظة عامية دارجة .. حتى يهب القدر فيساعده على بلوغ المراد ( لين أيهب عونك بالتمامى ) ولفظة ( لين ) هي تصريف من تصاريف اللهجة وتعنى ( إلى أن ) وكلمة ( عونك ) الواردة فى النص تشير إلى الرياح ، وتحديدا الرياح الشمالية الباردة التى يسميها ساكنى الواحة بالعون لأنها تعين الفلاح اذا هبت فى دراسة القمح والشعير وتلطف الجو وتشيع اجواء التفاؤل لدى المزارعين .
خوذ منى نهاية ويزى من خشوشك فى قضايا
اللى مكتوب من رب البراية ايجى فى ايديك وأنت فى المنامى
يستمر الشاعر فى طلب أن تأخذ منه نفسه نهايته وما أشار إلى تركه سابقاً ويقول ( يزى من خشوشك فى قضايا) .. ( يزى ) كلمة تستعمل فى المناطق الغربية من ليبيا وتحديداً فى طرابلس وما جاورها بمعنى يكفى وعبارة ( خشوشك فى قضايا ) فيها نهى عن الدخول فى قضايا خاسرة من البداية ف ( اللى مكتوب من رب البراية ) اى كل ما كتبه رب البرية على الإنسان سيكون محقق الوقوع لا محالة بل أن الله قادر على أن يأتى به بين يدى الإنسان فى طرفة عين ويحققه فى اغفأة الإنسان وصحوته الم يقل الشاعر العربي قديماً :
ما بين طَرفةَ عينٍ وانتباهتها يُغيرٌ اللهُ من حالٍ إلى حالِ