الشاعر الدكتور عبد الله العشي
يقف الشاعر اليوم، في يوم الشعر، وهو محاصر بسيل من الأسئلة الماكرة التي تشكك في فعاليته وجدواه، في زمن كل ما فيه مقدر بثمن ومحسوب بمقدار الربح والخسارة ، يتساءل كما تساءل الآخرون: ما جدوى الشعر وما حاجتنا إليه؟
ويجيب ببصيرة العارف ووعي المستشرف :حاجتنا الى الشعر حاجة دائمة؛ فالشعر ليس حالة عابرة مرتبطة بمكان أو زمان أو حالة نفسية ووجدانية مؤقتة، بل هو تعبير ضروري عن ظمأ روحي وجمالي دائم وأبدي، حاجتنا إلى الشعر كحاجتنا إلى ضرورات الحياة كلها، الماء والهواء والطعام والجمال، ومن أجل ذلك كان الشعر في كل شيء نراه، في ذواتنا وفي ما يحيط بنا، في الواقع والخيال، في الحقيقة والأسطورة، في العلم والدين والفلسفة، في الكلام والصمت، في اليقظة والحلم، الشعر في كل شيئ .
ومهمتنا أن نستكشفه وأن نحوله من حالة طبيعية إلى حالة ثقافية، من حالة الخفاء إلى حالة التجلى، لو كان الشعر حالة مؤقتة عابرة لما بقي إلى اليوم شعر يكتب ويقرا، تتغير أشكال الشعر ولا يتغير جوهره، والاهم أن حاجتنا إليه حاجة دائمة، فالحاجة إلى الجمال غريزة أصيلة و ثابتة وستظل في كياننا مثلها مثل سائر الغرائز.
والشعر اليوم ليس بخير، مثله مثل سائر النصوص المطلقة، تلك التي تسعى إلى أن تعبر عن المطلق الإنساني، في حوارية المعلوم والمجهول، والحقيقي والموهوم، والمغيب والمشهود، والذاتي والموضوع، أعني تلك النصوص التي تعبر عن الكلي، تدرك الإنسان بوصفه كينونة مركبة من جسد وروح، ضمير وعقل، حال ومصير، حقيقة ومجاز، نصوص لا تعتني بالثنائيات ولا تهتم بالتناقضات، هي اقرب ما تكون إلى التصوف وإن لم تكن صوفية، وأقرب إلى الفلسفة وإن لم تكن فلسفية، وإلى الدين وإن لم تكن دينية، وإلى الأسطورة وإن لم تكن أسطورية، الشعر واحد من هذه النصوص المطلقة، وهذه المطلقية هي التي تضمن له استمراريته وتحميه من إكراهات ما يحيطه، وتضمن له أن يتجاوز شروط الزمان وحدود المكان، وتبقيه سرا أبديا يتجدد ولا يفني، هذه المطلقية تبدو أكثر ما تبدو في تحرره من مضايقات اللغة وقواعدها، وإكراهات المعنى وتعقيداته،،، له لغته التي يجدد ريشها في كل نص، وله معناه الذي يكشف بعضه ويخفي بعضه ، وله مقاصده التي تحيا على كل لسان وفي كل قراءة، إن بيتا شعريا واحدا من معلقة جاهلية ما يزال حيا على الشفاه والأقلام، يبوح بسر ويغرى بأسرار لا يبوح بها، عصي على التثبيت دائما، لا معيار له، ولا موضوع ولا شكل إلا ما يأتي من داخله، أو هكذا يريد ، كل ما هناك هاجس يظل يتشكل باستمرار ويتخلق على الدوام ،، ينفي نفسه دائما ولكن لا ينتفي، وهذا سر بقائه.
نعم الشعر اليوم ليس بخير، لا هو ولا أشقاؤه من الأنواع والأجناس الأدبية الأخرى، فالأرض الخصبة التي كانت ملكا له، قد امتدت إليها أيد وعبثت بها، الشعر يعيش في أرض العجيب والغريب والأسرار، والعالم اليوم يسعى باستمرار ليقلص من حدود تلك المناطق ، ويزيل عنها سرها وخفاءها، وبالتالي ثراءها ودهشتها وفجائيتها، الشعر يحيا في أرض الهشاشة وبها، يلتقط تفاصيلها في الإنسان والحياة ويترجمها إلى ألوان وإيقاعات وصور، غير أن الهشاشة تم ترذيلها وإخراجها من فضاء المعنى الجميل إلى هامش أشبه ما يكون بقبر هرم، الشعر يتفتح في عوالم الخيال التي حاصرتها الآن تقنيات الفضاء وقلصت من مساحة المتخيل وبالتالي من حجم ما كان متاحا للشعر من قبل، الشعر فن اللانهايات، يجد متعته فيما لا تحده حدود ، ولكن التكنولوجيا قلصت من حريته ووضعت في طريقه أكثر من عائق، لأنها لا تؤمن باللانهاية، أسئلتها لا تبقى معلقة بينما يرفض الشعر تماما أن تنتهي أسئلته إلى إجابات ثابتة، إجاباته منفتحه دائما على اللانهاية. وبين منطق اللانيهاية الشعر ي ومنطق النهاية العلمي المهيمن تشققت أصابع الشعر وتطايرت أظافره. الشعر يستمد أحيانا من الذاكرة …
وقد حاصرها الآن سلطان النسيان، التكنولوجيا الآن تنفي ما استقر في الذاكرة بشكل متواصل فلا يستقر فيها شيء، حتى صار النسيان هو القاعدة وتحولت الذاكرة إلى هامش صغير باهت، الشعر يرافق الضعف الإنساني البهيج القابل للحياة والمليئ بالقيمة، وقد تم الآن إفراغ هذا الضعف من معناه الجمالي ، هذا الضعف هو مسكن المشاعر والأخلاق والضمير والجمال، وبالمعنى السوسيولوجي يمكن ترجمة هذا الضعف بأن الطبقات الوسطى التي كانت تمثل خزان القراء والمتلقين للفن والجمال أصبح عددهم محدودا لأن كثيرا منهم تحول إلى الطبقات العليا التي تنشغل بغير الفن أو الطبقات الدنيا التي تنشغل أيضا بغير الفن، وهكذا تم تيتيم الشعر وتغريبه في دنياه. الشعر ابن المعنى والقيمة والأسطورة والحلم والخيال، وكل تلك تم تجاوزها بالمنطق الرقمي والعقل الأداتي ، على حساب منطق الروح وعقل التواصل. كيف للشعر أن يكون بخير في عالم يقلص من حركية اللغة ونفوذها وسلطان مجازها من أجل توسيع هيمنة الصورة والرقم والأداة ؟ كيف له أن يذهب بعيدا نحو العمق والرؤيا وقد حاصرته السرعة والسيولة والمجانية والربح بأية شكل كان..؟ ورغم ذلك يظل الشعر قيمة إنسانية عليا بحمولته الجمالية والايتيقية ويظل معنى متأهبا للانتصار للإنسان وإنسانيته.
ويظل موجودا وإن عطلت وجوده بعض الأعطال، لا يمكن أن نتصور المستقبل إلا بالشعر، سيعود بهيا بعودة الإنسان.
ويظل بيت الشعر الجزائري يعلي طوابقة طبقا بعد طبق في مسار من الآمال المفتوحة على الإنسان الكوني ؛ تحية للمؤمنين بالشعر في يومه المجيد هذا وفي سائر أيامه الأخرى؛ وتحية للشعراء وللشعر للمشتغلين به؛ المجد للإنسان والمجد للشعر أينما كان …