بينما الغير يواصل تطوره، لا زلنانحن غارقون في التخلف !!!

بينما الغير يواصل تطوره، لا زلنانحن غارقون في التخلف !!!

بقلم :: محمد جمعة البلعزي

 في مقالتي هذه سأسلك درباً لم أتعود عليه لأتحدث عن أشياء ظهرت في حياتنا لنتلهى ونقتل بها وقت فراغنا (“نقتل”!! إحدى مفردات معجم تخلفنا العربي)، وحتى في أوقات جدنا وعملنا ودراستنا. أشياء دخلت عالمنا دونما استئذان، وتوغلت في بيوتنا ومخادعنا، وغيرت مجرى حياتنا وحتى طبيعتنا، اعتقدنا أنها ستنشلنا من الماضي المتخلف لتقفز بنا إلى المستقبل المتطورالذي طالما حلمنا به وتحدثنا عنه وانتظرناه بفارغ الصبر وتوقعناه أجمل من ماضٍ عشناه، لكننا وجدنا مستقبلاً يحتضر قبل أن يولد، بل أردأ من الماضي السحيق الذي كنا نعتبره أسوداً. أشياء ملكت حواسنا وسيطرت على أذهاننا وأفكارنا وبدونها ينفذ صبرنا ويركبنا ستون عفريتاً في خمسينات وستينات القرن العشرين دخلت حياتنا أشياء غريبة عن المجتمع الليبي، وخاصة سكان طرابلس، أجهزة كانت من الغرابة والضرورة بمكان جعلت المواطن وبالتالي المجتمع يتقبلها عن طيب خاطر وهو راضٍ رغم أنها أتت من أرض النصارى الذين يكن لهم عداءً مستحكماً لأنهم كفاراً لا مكان لهم في الجنة.أعني بتلك الأشياء السيارة التي تنقله وعائلته من مكان إلى آخر دون معاناة، مستغنياً بذلك عن الحمار والحصان والجمل، وما يعني ذلك من تكاليف مادية وطاقة عضلية، كتوفير العلفة وغسل الزائلة وتنظيف المرقد، وما يتبعهامن عربات تجر وراءها، كالكرطونوالشريولوالكاليسوالكروسة.ثم لحقت بالسيارة الكهرباء التي غزت بيوتنا وأضاءت غرف نومنا، ثم الثلاجة الكهربية التي دخلت المحال التجارية لتستبدل صناديق التبريد التي تستخدم قوالب ثلجيةيوفرها مصنع الثلج، وانتهت بالمنازل لتبريد وتجميد الأطعمة والمأكولات، رغم عجزها أحياناً عن إلغاء دور الزير في حفظ السمن واللحم المجفف (القديد) في عدد من البيوت، وخاصة العائلات القادمة من مدن ومناطق الدواخل، التي وإن اعتادت على الإقامة في العاصمة، لم تتأقلم مع مفهوم الحضارة وبقيت عالقة بأهداب التخلف، اعتقاداً بأنها تحافظ على الأصالة، وإن كل ما يأتي من وراء البحر غريب و”متطليين”، وبالتالي ليس منا.

غيرت السيارة والكهرباء والثلاجة ثم الهاتف والتلفزيون من طبيعة حياة الليبيين بشكل كبير، لكن هؤلاء كانوا يعتمدون أيما اعتماد لتصليح الأعطاب الفنية التي تطراً عليها، على المصانع والفنيين الأجانب، وجلهم من الإيطاليين، ومع مرور الوقت تمكنت شريحة بسيطة من الليبيين الصيانة بنفسها إلى درجة أن الأجيال التي عايشت حقبة الطليان أو التي أعقبتها وحتى جيلنا الحالي، كانت ولا زالت تستخدم المصطلحات وأسماء قطع الغياربالإيطالية، لعدم وجود مرادفات لها فيالعربية. واليوم وبعد أزيد من سبعين عاماً من انتهاء الحكم الإيطالي لليبيا نجد أن الوضع كما هو عليه، فالاستيراد كان ولا زال قائماً على قدم وساق رغم قلة السيولة وما يقابلها من سهولة في الحصول على تلك الأشياء من مختلف الدول المصنعة لنطبق المثل الشعبي الإسباني القائل “هم يصنعون ونحن نستورد”، وهو ما كان ولا زال يؤخذ علينا، فنحن شعب يعيش على ما تنتجه أسواق العالم، من جيد ورديء، ولم ولن نعتمد أصلاً على أنفسنا.

كانت ليبيا بشكل عام دويلة متخلفة خلقها الاستعمار، لم تتمكن من مواكبة التقدم العصري ولم تجاري دول أوروبا القريبة منها إلا قليلاً، بيد إن الوعي الثقافي الحضاري كان مفقوداً ولم تعمل الحكومات المتعاقبة خلال العهد الملكي على توعية الشعب، مع الاعتراف لها بالعمل على تطوير بعض مناحي البلاد ولو بشكل متأنٍ. ذلك التطوير جاء على أيدي مسئولين تلقوا تعليمهم في جامعات مصرية وأجنبية، أو عاصروا وترعرعوا إبان الحقبة الاستيطانية وتدربوا على كيفية التخطيط لإقامة العمرانوالتقدم والمدنية، وكانوا يحملون الوطن في قلوبهم صادقين في نواياهم مخلصين في عملهم. كانجلهم يقطن العاصمة الحضرية طرابلس، تليها بنغازي، وبدأت البلاد تسير نحو التقدم رويداً، وتبين ذلك خلال عشرية واحدة، هي عقد ستينات القرن الماضي.

وفي ليلة ظلماء حلت بالبلاد طامة كبرى لم يتوقعها سوى القليل،تزعمها أشخاص من البدو، قطعوا الطريق أمام طموح الناس نحو التقدم والعمران، وجلبوا معهم ذويهم من البدو الرحل الذين لا يدركون معنى العيش والتعايش في المدن والحواضر داخل بيوت ضيقة متلاصقة محدودة المساحة مقسمة إلى غرف تفصلها جدران، بعد أن اعتادوا حياة الصحراء والبحث المضني عن الكلأ والسكن في خيام تنصب ليلاً وتنقل على ظهور الإبل نهاراً.ملآ الرمل أذهانهم وتكلس روث الإبل في نعالهم وسكن الغبار المعفر شعورهم المجعدة،فكان أول ما قاموا به انتهاك مدينة طرابلس، بعد أن كان من يتوجه منهم إليها سابقاً يرتدي أفضل ما لديه من لبس، ويسافر حافياً متأبطاً نعليه إلى أن يبلغ مشارف المدينة ليلقيهما أمامه على الأرض ويوغل فيهما قدميه ويسير متألماً لأنه لم يعتاد لبسهما، وتراه يسير متمايلاً يدفع أسفلت الشوارع دفعاً وهو ما اعتاد عليه أثناء السير في الرمال. كان دخول البدو لطرابلس احتلالاً عسكرياًيماثل تماماً احتلالها من عسكر طائفة “فرسان القديس يوحنا” في ثلاثينات القرن السادس عشر، ومع مرور الزمن أصبح زعيم البدو قديساً لهم وهم فرسانه الذين يحموه، ولا أرىضرواًفي إطلاقمسمى ” فرسان القديس معمر” عليهم، بعد أن ساندوه في تنصيب نفسه قائداً أوحداً للبلاد دون منافس وعميداً للحكام العرب والأفارقة،وبلغتعبادة الشخصنة وحب الذات منهم كل مبلغ.

دام عهد البداوة أربعون عاماً ونيف وبدلاً من أن تشهد البلاد خلاله تقدماً حضارياً، واستكمال مسيرتها الحضارية مجاراة لدول عربية أخرى كانت ترى في طرابلس أمثولة وقدوة، وتوفر الإمكانيات وجدناها تعود إلى الخلف، ولم يطرأ على المواطن الليبي أي تطور يذكر رغم امتلاكه للكثير من الأِشياء العصرية.من السيارة الفارهة والهاتف الذكي المحمول وأكبر الصحون اللاقطة للقنوات المرئية العالمية، وغيرها من الوسائل الحديثة، لكنه لا يفقه في علومها شيئاً ولا يقدر على إنتاج أدنى الأشياء وأحقرها، كالإبرة لخياطة ملابسه أو المكنسة لتنظيف بيته أو الحلوى لأطفاله…، بيد أن النتيجة التي خلفها نظام الاستبداد البدوي تمثلت في ظهور جيل خالٍ من كل القيم الإنسانية، ناهيك عن القيم الدينيةبعد أن تحول الدين لديه إلى تقليد اجتماعي موروث، يذكر اسماً ولا يعمل بهبل يعمل ضده. تحطمت شخصية الإنسان الليبي بكل المفاهيم وتدمرت معنوياته، ليتحول إلى وحش يقتل ليلاً نهاراً ويخطف ويذبح من يدنو منه وهو يمجد الله تكبيراً.

لم يعد يوجد من يدرك أن ليبيا وطنيأويه يجب حمايته والذود عنه كما فعل الأجداد، فبدو اليوم شبوا وترعرعوا على يد نظام علّمهم أن حياة البادية الشاسعة والخيمة والحل والترحال أفضل بكثير من حياة البيوت المغلقة التي لها حدود تفصلها، متناسياً أن ليبيا،كأي بلد آخر، ليست سوى بيتشاسع له حدوده، وإن عبور حدودهدون إذن كدخول البيوت دون استئذان مسألة تخضع لطائلة القوانين ومساءلة القضاء.

هكذا أصبحت ليبيا، مرتعاً للصعاليك البدو الذين تربو وسط المدن، لكنهم لم يحيوا حياة البادية ولم يدركوا معنى العيش في المدينة، ففقدوا توازنهم واختل عقلهم، والانكى أنهم يحملون أسلحة يقتلون ويرهبون بها الآخرين، كقائدهم الذي امتشق يوماً رشاشه وامتطى دبابة وقلب مصير البلاد راساً على عقب، ولم تسترد وضعها الطبيعي حتى بعد سبع سنوات من مقتله، وها نحن نشاهد ونعيش النتيجة.

أعود لأتحدث عن الأشياءالتي يصنعها الغير ونستهلكها نحن، ونعتقد أننا بحصولنا عليها قد تطورنا، لكننا في واقع الأمر لا زلنا نراوح في مكاننا منذ عقود، ولا نعيش إلا على قشور ما ينتجه العالم المتطور، الذي لا يتقدم فحسب، وإنما يسرع حثيثاً نحو التطور في شتى المجالات، فقد أصبح على قيد أنملة من السيطرة على أخبث الأمراض بعد أن طور العلم، ويبحث جاداً عنكيفية إطالة عمر الإنسان إلى أكثر من قرن،بل وأن يبقى الإنسان حياً دون أن يدركه الموت، ويطير إلى الكواكب الأخرى، واصبحت القطارات تسير بسرعة تفوق الخمسمائة كيلومتراً في الساعة، والسيارات دون أن يقودها إنسان وتشغيلها بالكهرباء للتخلي عن التبعية للمحروقات النفطية، بما يشير إلى قرب نضوب النفط الذي يتنازع عليه الليبيون اليوم، وستصبح بلادهم صحراء جرداء، كأدمغة المتحاربين من أجل حفنة دولارات زائفة أو سلطة غير دائمة.

إن المجال لا يسع للحديث طويلاً عما نحن فيه من تخلف وجهل وظلم وظلام عقل،وبينما لا زال العالم يسعى حثيثاًنحو التقدم والتطور في جميع المجالات، نسعى نحن إلى خراب بيوتنا بأيدينا، وفي حين يواصل الآخرون البحث عن تطوير مقدراتهم نبقى نحن كما كنا وأسوأ، متخلفون لا نستحق الحياة، وإن كل ما نملكه من وسائل حديثة وعصرية، ليست إلا قشوراً لأنه لم تخرج منا قطرة عرق واحدة لصنعها أوتركيبها، ولمنعصر ادمغتنا للتفكير فيها أو التخطيط لها، وذلك لعمري عين التخلف الذي لن نخرج من جلبابه مهما حاولنا طالما يقف بعضنا سداً منيعاً في طريق محاولات البعض الآخر للإفلات منه، والويل لنا لو عادوامن ذكرتهم في البدء لحكمنا أربعون سنة أخرى.

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :