كتب / عبد الرحمن جماعة ……
يقول أحد فصحاء العرب: “أباني جيد الشعر، وأبيتُ رديئه”. بين جيد الشعر ورديئه، بين الشعر واللّاشعر،بين المدهش والمألوف، ثمة مساحة شاسعة يتخذها أغلب شعراء اليوم ملعباً ومسرحاً، فما يقولونه يسمو عن الكلام العادي، ولا يصل إلى مرتبة الشعر، كلامٌ.. لا يصح كتمانه، ولا يصح إعلانه. كلامٌ.. إن قلت عنه شعراً ظلمت الشعر، وإن قلت: ليس بشعرٍ ظلمت قائله. كلامٌ بين بين.. لا يصلح للبيع، ولا يصلح له الكساد. كلامٌ.. لا يجوز طرحه، ولا يحسن ضمه. كلامٌ.. لا يجوز الإعراض عنه، ولا يحسن الاحتفاء به. هو ليس بالكلام “المبتذل” المكرر المعتاد حتى يُطمر، ولا بالشعر حتى يشاع ويُنشر. هذه المساحة ليست هينة ولا قليلة، بل هي مساحة أغلب الكلام المعروض في سوق القريض، وفيها يصول ويجول أغلب من ينظمون. فما هي الطريقة التي ينبغي أن نعامله بها؟ وكيف يُمكن لنا أن نتناوله ونتعاطاه؟ هل نرفعه إلى درجة الشعر، أم نخفضه إلى درك الـ “أيّ كلام”؟ هل نُعلي من شأنه فنفسد بذلك ذائقة الناس؟ أم ننبذه وهو لا يخلو من ذائقة؟.. في حديث لي مع صديق ناقد، اقترح صديقي أن تُصنَّف هذه المرحلة على أنها مرحلة من مراحل الشعر، ومرتبة من مراتبه، ودرجة من درجاته، وهذا التصنيف ليس غريباً، ولا جديداً، فهو موجود في أغلب مجالات الحياة، فعلى سبيل المثال: في التسلسل الوظيفي، وفي مراتب الدارسين في المؤسسات التعليمية، وفي النوادي الرياضية، وفي العسكرية.. وغيرها. وميزة هذا التصنيف أنه يبعث على التنافس، ويحفظ الحقوق، فلا يصح أن تساوي بين حامل شهادة الدكتوراة وبين من هو دونه، لما بينهما من تفاوت في العلم والخبرة. وبهذا التصنيف نكون قد حفظنا لكبار الشعراء مكانتهم ومقامهم، ونكون قد حفظنا لصغار الشعراء حقهم في التعبير عن مشاعرهم، ومحاولة الارتقاء بشعرهم. ثم إنَّ الإنسان في أي فنٍّ من الفنون يمرُّ بمراحل، ولا يُمكنه أن يرتقي إلى مرحلة دون أن يمرَّ بالتي قبلها، كمن يرتقي درجاً، لا يُمكنه أن يقلل من شأن الدرجات التي تجاوزها، لمجرد أنه تجاوزها، إذ لولاها لما كان في أعلى الدرجات، كما لا يُمكن لأيٍ كان أن يستهين بطفولته أو بمراهقته، لأن تمام نضجه، وكمال عقله لم يحصل إلا بالمرور بتلك الفترات العمرية.
إذا.. فكيف لنا أن نَحرم الشاعر من هذا التدرج الطبيعي، ومن حقه في أن يُطوِّر ملكته، وينمِّي قدراته، ويصقل موهبته، مع علمنا بأنَّ كلَّ ذلك لن يتأتى دون أن يعرض نتاجه على الناس، ودون أن يكون له مُتلقٍ يستحسن قوله، ويستعذب مقاله. الإشكالية تكمن في الاختيار بين أمرين، إن اخترت أحدهما ضيَّعت الآخر، ولا يُمكنك – ابتداءً – أن تجمع بينهما!. فإما أن تختار الارتقاء بذائقة الناس، وتترك أنصاف الشعراء، وإما أن تختار الارتقاء بأنصاف الشعراء، فتهبط ذائقة الناس. فهل يمكن أن نجمع بين هذين النقيضين؟ وهل ثمة حلٌّ – غير المطروح آنفاً – يحفظ لكبار الشعراء مكانتهم، ولصغار الشعراء فرصتهم، وللسامعين ذائقتهم؟ قد لا ترى لهذا الموضوع أي أهمية، إلا إذا كنت مهتماً بالشعر، وتأسف لهبوط ذائقة الناس. وقد لا ترى لهذا الإشكال معنى إلا إذا كنت تعرف قيمة الشعر، وأهميته في حياة الناس. يقول أبو تمام: ولولا خِلالٌ سنَّها الشعر ما درى * بُغاة الندى من أين تؤتى المكارم وقد لا ترى لهذا الإشكال أي قيمة، إلا إذا كنت ممن خالط من ينظمون الشعر، ورأيت كيف أن بعضهم ينظم كلاماً يخلو من أي قيمة شعرية، ثم يُخاطبك وكأنه(لبيد بن ربيعة)!، أوكأن القوافي لم تُخلق إلا له، بل ويتصدر مجالس الشعر، ويعلو منابره، ومنهم من تورَّط وطبع ديواناً. وهذا الكلام لا ينطبق على الشعر المقفى الموزون (العمودي)، بل لكل أصناف الشعر، الحديث منها والقديم. ويُمكن تقسيم من ينظمون الشعر إلى ثلاثة أصنافٍ: الصنف الأول: وهم من لا شأن لهم بالشعر، ولا علاقة لهم به لا من بعيد ولا من قريب، وإنما همهم تصفيف الكلام العادي، وتنميقه في صورة وشكل شعر، والشعر منه براء، وهؤلاء أمرهم إلى زوال، والكلام عنهم غير ذي بال. الصنف الثاني: وهم فطاحلة الشعراء وعباقرتهم، وهؤلاء أيضاً لا إشكال عليهم، لأن شعرهم ينطق عنهم، ويشهد لهم. الصنف الثالث: وهم من لا يُمكنك وصفهم بالشعراء، ولا يُمكنك سلب هذا الوصف عنهم، وهؤلاء هم جوهر الإشكال، ولب المعضلة. وأخيراً.. فإنني أرى أن الحلَّ يكمن في أحد أمرين، أو كليهما: الأمر الأول: أن يكثر الشعراء حتى يصبح في كل بيت شاعر، وعندها يقل الطلب على الرديء، ولا يعود مجرد النظم وتصفيف الكلام يُحسب على الشعر، تماماً كما يحدث في بيئة البدو، حيثُ أن أغلب الناس ينظمون أبياتاً، لكن لا أحد منهم يزعم أنه شاعر، وصفة شاعر لا تعطى إلا للقلة القليلة. الأمر الثاني: أن يكثر النُقاد، فيصبح الخوف من النقد دافعاً إلى التمام، أو مانعاً من الكلام.
وإلى أن يتوفر أحد الأمرين، سيظل أنصاف الشعراء يهيمون في أودية القريض بغير هدىً، يُنتجون لنا خبزهم النيء، ويكررون أنفسهم، ويدورون على نفس رحاهم، دون أن يرتقوا بشعرهم، أو يطوروا من ملكتهم، أو ينموا موهبتهم، وما ذلك إلا لأنهم ظنوا أنهم شعراء، وأنهم بلغوا من السُّلَّم أعلاه، ومن الشعر منتهاه، ومن الإبداع سماه. وإلى أن يتوفر أحد الأمرين، سنظل نأكل من أوانيهم، دون تمييز بين لذيذهم وممجوجهم، وبين نيئهم وناضجهم، كما يأكل أبناء العمشة من إناء أمهم، ويمتدحون طعامها، ليس لأنه طعام لذيذٌ، بل لأنهم لم يتذوقوا غيره!.