ايمان علي
الظنون أول ما تكون خاطرة أو وسواساً، ثم إن لم يدافعها الإنسان توطدت واستقرت في القلب، فتحولت إلى فكرة، فيحمل الإنسان موقفا تجاه الشخص المظنون، ويمتلئ القلب بالضغينة عليه، ثم تبدأ ترجمة ذلك الظن إلى سلوك قولي وعملي، فيتبع سوء الظن التجسس والغيبة والجفاء غالبا، ولذلك لما أمر الله باجتناب الظن أتبعه بالنهي عن التجسس والغيبة، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا…} [الآية، الحجرات: 12].
والمقصود بالظن المأمور باجتنابه هو التخون والتهمة للناس من غير بينة واضحة، بل قد يرى الإنسان شيئاً، أو يسمع كلمة، فيلقي الشيطان في قلبه سوءا، ويزين له الظن السيء، ثم لا يزال يغري صدره بالأوهام والوساوس حتى يصبح عنده يقين مزعوم بالسوء، فنهي المسلم عن متابعة هذا الوارد، والاسترسال في الظن بالناس بغير حق.
ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم أكذب الحديث كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا».
وإنما جعله أكذب الحديث؛ لأن الكذب مستقبح شرعا وعقلا، وقد استقر في الأذهان استقباحه، فهو افتراء محض، لكن لما كان صاحب الظن يتوهم أنه يستند في وهمه على أمارات تسوغ له ظلم المظنون، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظره إلى أنه أشد من الكذب، حتى يحذر من التخوض في الأعراض بغير حق. ويلحظ الإمام البخاري في حديث النهي عن الطروق ليلاً معنى التخون الذي قد يكون إحدى حكم النهي النبوي عن ذلك، فقد قال: “باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم”، ثم أورد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا».
فالشريعة ترفض أن يكون مبدأ التعامل بين الزوجين على وجه الخصوص هو التخون وعدم الثقة، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة البحث عما يؤيد ذلك عن طريق التجسس والتحسس، بل لا بد أن يكون الأساس هو الثقة، فلا يسمح أحد الزوجين لنفسه بالأفكار السلبية، والخواطر الباطلة، فإن وقع في نفسه شيء منها من غير وجود ما يدعو إليه بادر إلى دفعها والتخلص منها.
فالأصل في التعامل هو حسن الظن ما لم يرد من الدلائل ما ينقل عن ذلك الأصل، ففي كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: «أحسن بصاحبك الظن ما لم يغلبك». فالظن مأمور باجتناب كثيره لأجل أن بعضه إثم، احتياطا وورعا عن الوقوع في الإثم، وما كان افتراء من غير مستند، فهو محض بهتان.
وإن ظهر ما يدعو إلى الريبة، بحيث كان الظان يستند إلى دلائل وأمارات فليس من الإثم، فمفهوم الآية يدل على ذلك {إن بعض الظن إثم}، مما يدل على أن بعضه ليس إثما.
وإذا كان المسلمون مطالبين بحسن الظن بالآخرين فإن على الآخرين أن لا يكونوا سببا في إساءة الظن بهم، وذلك بتجنب ما يجلب الريبة والتهمة وسوء الظن، وهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ذلك كما في صحيح البخاري ومسلم عن صفية بنت حيي، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا» أو قال «شيئا».
وبوب الإمام مسلم على هذا الحديث بقوله: باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به.
والمنظومة الأخلاقية في الإسلام في غاية التوازن والتوسط، فحسن الظن على سبيل المثال وسط بين السذاجة والتخون، واستعمال هذه الصفة محكومة بضوابط بينة، فعندما لا يكون للإنسان أمارة ولا مستند فإن إساءة الظن في هذه الحالة يكون تخونا وتهمة، وإذا ظهرت بوادر الشر والخيانة فإن حسن الظن في هذه الحالة يكون سذاجة، والأولى مع ظهور الأمارات هو الحذر والحيطة والتنبه والحزم، فغالباً ما تكون الصفة المحمودة وسطاً بين صفتين مذمومتين، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين البخل والإسراف، وهكذا بقية الصفات، ويمكننا أن نقول إن حسن الظن وسط بين التخون والسذاجة، فالخروج عن التوسط ميل إلى هلكتين محققتين.