تحت الشجرة

تحت الشجرة

د.شميسة غربي

تبْدو ناصية الشارع؛ خاليَة إلا من بعْضِ الرّاجلين، يتسارَعُون منْ أجْل امْتطاءِ آخرِ حافِلة تُقلُّهُمْ نحْو وجهاتهم المختلفة. إنّها السَّابعة مساء لم يبْق سِوى ساعَة واحِدة على ضرُورة الِامْتِثال لقانون الحَجْر الجزئي والذي يستمرّ إلى غاية السّاعة السّادسة صَباحاً في هذه المدينة. في حضْرَة الوَجَع تفاقمَ الوباء في المَكان، وما عاد بالإمْكان؛ التكهُّن ِبمنْ سيسْقُط١وبمَنْ سينْجو. المدينة تبكي أحياءها الشاحبة، يدُ الموت تشتدّ وتشتدّ. لمْ يخْلُ بيْتٌ مِنْ فجيعَة. أين الحلّاق “رشيد”؟ أيْنَ صاحِبُ الفُرْن “معطى الله”؟ أين النّجّار “فريد”؟ أين طبيب الحيّ “إبراهيم”؟ القائمة طويلة المهندس “مراد”، الطالبة الجامعية “سعدية”، “منصور”، مدير مؤسّسة، “نجيب”، سائق طرامواي، “مجيد”، مُنَشِّط إذاعي، “زينب”، إعلامية حديثة الِالتِحاق بالوظيفة، “رفيق”، ُمَمثِّل مسْرَحِي، “قادِرُو”، بائع خردوات، “زينو”، عامل نظافة، “لمياء”، شرْطِية، “وَهِيبة”، مُوَظّفة بالبنْك المرْكزِي، “عزيز” و”مهدي” رَجُلا إطفاء، “عبدالسلام” أستاذ جامعي، المدينة؛ وَشمَتْها النُّعُوش، تقيّأتْ أحْزانَها، يدُ الموت؛ نوّعَتْ قطف المحاصيل، فاضتِ القبور وغابت تلك الطقوس الجنائزية، أينَ الجموع التي كانتْ تُرافِقُ الميّت حتّى آخرِ توَاجُدٍ له على سطح الأرض..؟! لا انْدِهاشَ بعْد اليوم، أدْرك الجميع أنّ المُوَاجَهة هي شرْط البقاء، وكما يتناسلُ الموت ستتناسلُ الحياة! “اخْدِيوْجَا” مِنَ الأفارِقة السُّود، كعادتها في مثل هذا الوقت، تُلَمْلِمُ أشياءَها، تنْهَض بقامتها المَديدة، تُعيدُ ترْتيبَ ملاءَتها السّوْداء، تلُفُّهَا بِإحْكام حوْلَ جسدِها الهَزِيل، القَدَمانِ تستقِرّان داخل الشّبْشِب المُهْترئ.. اليَدَان تمْتدّانِ إلى الغُصْن المُتَدَلّي مِنَ الشجرة، تَجُرّان قطعة قماشٍ كبيرة؛ أعطتْها إيّاها هذا الصّباح إحْدى المَارّات، فعلّقتْها على الغُصْن وكأنها أشْفَقَتْ عليْها من غبار الأرض وزحْمَة الأقدام. بين قهوة “خليل” ونغمة الوتر قدِمتْ “اخْديوْجا” إلى هذه المدينة منْذ سنتيْن أوْ أكثرَ بقليل. بعْد اطّلاعها على أغلب شوارع وأحياء المدينة ومراكزها الرئيسية؛ اختارتْ أن تقضي يومها كاملاً في هذا الشارع الجديد؛ على أن تعود عند كل مساء إلى حيث مَلاذ المبيت رفقة جماعة من الأفارقة السود المتجوّلين طوال النهار بين الأزِقة والمحلّات والمرَافِق العُمومِية. صِبْيان، رِجال، نِساء، فُرادى، جَماعات، ينتشرون حول الطرقات؛ في عزِّ البرْد وفي قيظ الهجير. اعتادت “اخديوْجا” الجلوس تحت تلك الشجرة الباسقة والتي تتوسّط عدة محلاتٍ تجارية ومقهىً ؛ جُمِعَتْ كل كراسيه بسبب الجائحة، واقتصرتْ خدماتُه على توصيل القهوة المحمولة إلى مَنْ يطلبها من أصحاب المحلات، وقدْ يقتنِيها المارّة من الشباب، يقطعون الطريق والأكواب الصّغيرة بيْن أيديهم، يرسمون أحلامهم الكبيرة على حواف الأكواب في تحدٍّ واضح للوباء! يتلذّذون بالرّشفة والنّكهة المُمَيّزَة لقهوة “الحاج خليل” الفلسطيني الأصل الجزائري المولد.. لا قهوة تعْلو على قهْوة هذا السيّد، قبل الجائحة؛ كانت المقهى تغصّ بالناس من مختلف الأعمار يرتشفون ويستمعون إلى الأغاني الفلسطينية الثورية، بل وأصبحوا يحفظونها ويتغنّوْن بها مثلما يتغنوْن بأغاني الزمن الجميل، “رابح درياسة”، الشيخ “عبدالمولى”، “الشيخ الحاج محمد العنْقى”، “الهاشمي قروابي”، “عبدالقادر شاعو” “عبدالمجيد مسكود”، “كمال مسعودي” وغيرهم. لم يستطع “الحاج خليل” التفريط في المقهى رغم إلحاح أبنائه على ضرورة الراحة لِمنْ هُمْ في مِثلِ سِنّه. كان يجد فيها السّلوى وجمال الجلسة والحكايا مع أصْدقاء العُمْر من الجزائريين ومُختلف أبْناء الجالية العربية المُقيمة في هذه المدينة. أبناء “الحاج خليل”؛ منْهم الطبيب، ومِنْهم المُحامية، ومنْهم الأستاذ الجامعي؛ ينْصاعون لرَغْبة والدِهم ويحْترمون خيارَ الاحْتفاظ بالمَقهى وتسيير أمورِه بإشراف الوالد “خليل” وبُمساعدَةِ شابّيْن؛ يتكفّلان بكل المُسْتلزمات من شراءٍ للموادّ وتنظيفٍ للمكان وتوْصيل للزبائن.. “اخْديوْجا” مَنارَةُ الحَائر! اعتاد الناس على تواجد “اخْدِيوْجا” تحت الشجرة. فالتُّجّار وزبائن المقهى والمحلّات؛ لا يبخلون عليها بِما تيسّر. أقدميتُها في المكان؛ تجعل منها “مَعْلَماً”؛ يَهتدي به الوافد الذي لا يعرف زوايا هذا الشارع. فالباحث عن التاجر فلان؛ يقولون له “إنه مقابل شجرة كبيرة تجلس تحتها أفريقية تُدْعى اخْديوْجَا، والقاصد للصيدلية؛ بواسطة سيارة الأجرة؛ يُسهّلُ على السائق نعْت المكان بِاسْمِ “اخديوْجا”، حتّى موَاعِيد بعض أصْحاب الصّفقات؛ أصبحتْ تُضْرَب بِنِيَةِ اللقاء؛ عند المقهى المُحاذي لِشجَرَة “اخْديوْجا”.. لا أحد يعْلم مَنِ الذي أطلق عليها هذا الاسم. قد تكون إحْدى سيّداتِ العِمارة المُجاوِرة. أيام المطر؛ كانت “اخْديوْجا” تنتقل من تحت الشجرة إلى مدخلِ العِمارة، تجلس في الزاوية؛ والعيْنان الكبيرتان البرّاقتان تُتابعان قطراتِ المطر الساقطة فوق أوْراق شجرَتها الصّامدة. يطيرُ بها المشهد نحو أرضٍ بعيدة، غادرتْها يومَ غدرَتْ بها أيادي الظلام. تتساءل “هلِ المطرُ هُنا، يُشْبهُ المطرَ هناك..؟ “تضع كفّها على خَدّها بعْد أنْ ثبّتتْ مِرْفقها على إحْدى رُكْبَتيْها، يرْتسمُ المشهد كاملاً أمامَ عينيْها. تشعرُ بدمْعٍ ساخن يجْري تحت كفّها. يوم زفافها، تعرّضَتْ قبيلتُها لِإبادَة جماعية، قُتِل عريسُها أمامَ عينيْها، سِيقتْ هِيَ وبعْضُ الفتياتِ إلى العَرَاء؛ وتُرِكْنَ هناك مُقيّداتٍ بيْن جُثث الموْتى ونعِيقِ الغرْبان. ينْتشِلها مِنْ هذا المشهد؛ صوت “فتيحة” الساكنة في الطابق الأرضي وهي تدعو وَلديْها لتفقّد طلبات بعض سُكان العِمارة قبل أن تبدأ هي و”سُكينة” ابنتُها؛ في تنْظيفِ السّلالم وجمع أكْياس النِّفايات المنْزِلية الموْضوعة عند أبواب ستة طوابق. “فتيحة” في سنّ الأربعين، زوجُها “إدريس”؛ حارسُ العمارة؛ توفّي منذ سنو

سنوات ِبسَكتة قلبية، فاقترَح السكان أن تظل “فتيحة” وأولادها في المسْكن وفي خدمة السُّكان خاصة كبار السِّنّ بيْنما تولّى الابْنُ الأكبر مسؤولية أمْنِ العِمارة.. تنْتفِضُ “اخْديوْجَا” لِلَحظاتٍ على صوْتِ المرْأة؛ ثمّ تغرق من جديد في تأمُّلِ الشجرة وقد غسلتْها الأمطار وتجَمّعَ الماء تحتها في شكل بِرْكة صغيرة. تُحدِّث نفسها بالبقاء عند مدخل العمارة حتى يحين وقت انصرافها إلى مكان مبيتها. لقد حوّلَ رِفاقُها حَيّاً مهْجوراً في ضواحي المدينة إلى مهاجع، يتكدّسُون فيها. في هذا الحيّ؛ ينْتشرُ بعض الصّبْية السود، يلعبون طوال اليوم، يُغَنّون، يتدافعون، وكلهم ثقة؛ بأن المساء سيكون أحلى عندما يعود الكبار مُحَمّلين بالطعام واللباس والفراش والأحذية وحتى بعْض الألعاب التي يُفرّطُ فيها أطفال الأحياء داخل المدينة.. أما البعض الآخر من الصبية الأفارقة؛ فيسلكون مسالك الكبار، يجوبون الشوارع في حماس، والأوعية البلاستيكية مختلفة الألوان بين أيْديهم؛ يعْرضونها على المارّة ومعها أدعية الصِّغار البريئة؛ لكل مُتصدّق. لقد تعلّموا لغة البلد، وحفظوا أغلب الأدعية التي يسمعونها في الأسْواق والمُنْتزهات وداخِل الدّكاكين. ينْطقون بكل سلاسة وبإلحاح شديد، مِنْهُم مَنْ يدعو ويقول “الله يْزَوْجَكْ!” دون أن يُدركوا إن كان المارُّ حوْلهم مُتزوّجاً أمْ لا. ومنهم من يدعو “الله يْفَرَّجْ عليك” ومنهم مَنْ يُردّد “الله يرحم الوالدين”. “صدقة، صدقة، الله ْيفَرْحَكْ”. هؤلاء يعتمدون على أنفسهم وعلى برَاءَتِهمْ التي تمسُّ القلوب والعقول في آن. أيام المطر هذه، عنوان كل البركة. يتسارع السُّكّان إلى تقديم الوجبات الساخنة للمرأة المُحْتمية بمدْخل العمارة. تأكل. ثم تجمع الباقي في عُلَبٍ بلاستيكية متفاوتة الأحجام، تضعها في كيسٍ من القماش الغليظ، ثمّ تطوي ما تيسّر من الثياب؛ وتجعلها في شكل رُزَمٍ، تُكَوّمُها فوق ظهْرِها وتنْطلق في أرْيحية واطمئنان، حتى إذا حلّ الغد؛ رأيْتَها من جديد وقدْ صحَتِ السماء، تحجُّ إلى شجرتها الشامخة، تفترش قطعة كارتون وتتأمّل النّاس. فتتلهّى حيناً بمتابعة المشاجرات بين التجار الجُدُد والتجار القُدامى. أو بين بعض المتسكّعين الذين ألِفوا الفوضى والصّخب. وقدْ تتلهّى بمتابعة منظر الأمّهات وهنّ يرافقن أبناءَهُنّ إلى المتاجر، وجميعُهُمْ يرتدي الكمامات بألوانٍ زاهية؛ وعليْها رُسومات خُصِّصَتْ للأطفال؛ فأصبَحَتْ مجالاً للتَّبَاهِي بيْنهُمْ. وفي عزِّ التّباهي؛ قد تصْطدمُ إحْدى الأمَّهات بسؤالٍ ُمفاجِئ “هلْ حقّاً سنموتُ يا أمِّي..؟

دموع الشجرة منذ أسبوع تقريباً؛ لم تظهر “اخْديوجا” في المكان. تساءل التُّجّار. تساءل سكّانُ العِمارة. وكأن البقعة هذه؛ ينْقصُها شيء. أين غابتْ! الشجرة أصبحتْ تحْملُ اسْمَها، لذلك يصعبُ نسيان المرأة وعدم تفقّدها. لها من العلاقات الطيبة مع النّاس ما يشهد به المارّة والساكنة. تراها تعود؟! يهْتدي أحدُهم – وهو الذي ينْتظرُها منذ أيام؛ لِيُقدِّمَ لها ما تبرّعَتْ به سيّداتٌ في الشارِع المُجاور- إلى البحث عنها في حيّ الأفارقة المعروف.. يذهب بصُحْبة أحدِ أصدقائه وعند مصادفته لأوّل امْرأة؛ يحْتار كيْف يسْألها وماذا لوْ فهِمتْهُ خطاً. تنظر إليْه المرأة ِبسَهْوٍ غريب ثمّ تتابع طريقها وفوق ظهْرِها صبِي؛ تجمّع الذباب فوْق رأسِه وهو يُحارِبُه بأنامله الصّغيرة. يَطرُدُهُ، ثم لا يلبث أنْ يحُط على أنْفه الذي هو في حجْم حَبّةِ القرُنْفل. يتوغّلُ الصديقان في الحيّ. يُوقفهُما شابٌّ أفرِيقي، يسألهما بلهجة مُكسّرة عن مُرَادِهِما.. يُبلّغانِه أنّ بِحْوزَتِهما “أمانة” يجب تسليمها إلى صاحبتها “اخْديوْجا” المعروفة في شارعنا؛ بـ:صاحبة الشجرة. يطول صمت الشاب قبل أن يضع يدهُ على جبينه. تخونه رُكبتاه. يتهاوى على حجَر كبير. يراه بعض السود، يهْرعون إليْه، يُحاوِلون إنْهاضه. يسمع الصديقان أحدَهُم وهو يُتمْتم بنبرة حزينة: “إنه موْتُ “اخْديوْجا”. لقد رحلتْ أخْتُه الوَحِيدة. طالتْها يدُ الجائحة. لم تسْلمْ من الوَباء. راحتْ، وظلّتْ ذِكرَاها في القلوب، و باتتْ روحها تطوف بالشجرة، حتى يُخيّلُ إلى البعْض أنها ستعود بملاءتها السوداء وشبشبها المُهترئ وأكياسها الممتلئة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :