- قصة قصيرة / عبد الكريم الساعدي
أسراب الإوز، وطيور الخضيري والحذاف الشتوي ودجاج الماء الأسود والنحام الوردي تضرب سطح الماء برجليها فرحة؛ فتحطّ. لوحة رسمتها الطبيعة بأبهى الألوان على جدائل مويجات الهور، تؤطّرها نقوش سومرية، مفعمة ببهاء النخل وزهو القصب والبردي ورائحة الطين. كان ضمد مسكوناً بالعشق لهذا المشهد، ينتظر كلّ سنة عودة الطيور المهاجرة؛ كي تمنحه رسائل شوق وبعض الدفء، يمتَح ماءً من جذور الشوك والعاقول، يعتّقه أنفاسَ حلم، ظلّ مشدوداً إليه بلهفة الولهان.
كان الهور يمنح ضمداً سحر الطلاسم والأساطير، يبشّر بغيابه، بينما هو يلوذ بالصبر مذ أتى مملكة الوجع؛ يحلم أن يكون طيراً فحسب؛ بيد أنّه لا يدري أسكنَ جنوب الوجع أم سكن الوجع جنوبه؟. لم يرث من أبيه غير أسمال عزلته وخوفه، ومن أمّه صمتها ولون ثيابها السود؛ يضرب كلّ يوم في ظلّ أنين نايات الجنوب خيمة حلمه على ضفة نهر، ينحدر ماؤه صوب الهور؛ يغنّي ويغنّي، ويغني … ؛ لعّله يصبح طيراً؛ فيهاجر بعيداً نحو النور والدفء.
في الصباح يسرد لأهل القرية ذات الأحلام، وأنّه سيصبح طائر الخضيري حين يترصّع خاتم السماء باللازورد، ويظهر فيها نجم سهيل؛ أهل القرية لم يشكّوا يوماً أنّ ضمداً تلبّسه الجنون، وأنّ حلمه سيلعق ما تبقّى من عقله.
ذات شتاء يعاود حضوره على غير عادته، بقلب ملؤه الحبور، يحدّق في المدى، أسراب الطيور المهاجرة تحجب الشمس، تحلّق نهاراً فوق الأهوار، تبتسم لجنات عدن، مأوى الدفء؛ الشوق يطير بضمد إلى شاطئ النهر، يخلع عباءته، يفترشها، يبتسم لصفحة ماء النهر المكتظّ بطيور الخضيري، تمتلئ جوانحه فرحاً بعودتها؛ وعند امتزاج خضرة الطائر البراقة باللون الأخضر للقصب والبردي؛ ينزلق في حلم، تتكحّل السماء باللازورد، عيناه تجوبان الفضاء المديد كطائر مهاجر، تعانقان نجم سهيل، يمدّ زمانه نحو سرب الطيور، يخلع ثوبه، يرتدي جبة حلمه، يزحف على بطنه، يتكوّر، ينبت له ريش ملون جميل، يستطيل أنفه، يصبح منقاراً، أصابعه تتقلص، تلتصق بطيات جلدية، يصفق الهواء بجناحيه، يحلّق في الفضاء، يهبط، يضرب سطح الماء برجليه، يحطّ، يختار أنثاه، يدهشه كلّ شيء فيها، يمارس الفرح، يمرّ الوقت، يقترب موعد الهجرة إلى الشمال؛ وقبل أنّ يستوعبه الحلم، ويرحل بعيداً صوب مدن الثلج والضباب، تدركه صيحة تخلع القلوب، يخيّل إليه أنّ الصوت منبثق من أعالي الايشان* :
– ضمد، يا ضمد الخضيري…
يلتفت ناحية الصوت، شبح ينتفض من قبره، يحوم حوله، يفزّ مرعوباً، يصرخ بأعلى صوته؛ أسراب الطيور تضرب سطح الماء بأجنحتها، تفرّ فزعة؛ فتطير بعيداً، تختفي في أعماق الهور؛ ضمد ترتعد فرائصه، يطلق ساقيه للريح تاركاً أسماله على ضفة النهر؛ وبلمح البصر يختفي بين أكمات القصب والبردي بلا عودة؛ لا يدري، أ صار طائراً أم أصبح طائر الخضيري ضمداً؟.
—————————————————————————–
*(ايشان): كلمة سومرية تعني المرتفع أو التل، استخدمت فيما بعد مقابر للأطفال، ويتداول سكان جنوبي العراق قصصاً وأساطير حولها.