- جميلة الميهوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجري، أجري مسرعة… ولحسن حظي وصلت في اللحظة المناسبة. انفتح باب الحافلة وركبت. بلمحة سريعة انتبهت إلى وجود مكان شاغر. كان المكان ثاني كرسي جنب المقعد المحاذي للشباك في صف طويل من الكراسي في آخر الباص. المسافة إلى Camosun College تستغرق حوالي أربعين دقيقة. معظم الركاب طلبة في الكلية.
عندما أكون محظوظة أجد مقعدا جنب الشباك. يمر الوقت وأنا أتأمل جمال الطبيعة وأستمتع به. ثلج. مطر. شمس، أشجار وزهور. طيور. ملاعب. شوارع منظمة نظيفة. سيارات غير فارهة. رخيصة. قديمة ونظيفة جداً. وفي كثير من الأحيان ألمح مشرّداً يستعد لبدء نهار جديد بعد أن قضى ليلته في البرد تحت شجرة من أشجار الحديقة. كلما ابتعدنا عن المدينة وصعدنا الجبل تبدأ بالظهور المزارع، الخيول، القصور والمسابح، وكذلك السيارات الفارهة. عادة يذكرني ذلك بأثرياء العرب وحقرائهم.
عندما لا يحالفني الحظ لا أجد مقعدا جنب الشباك. وبما أن معظم ركاب الباص طلبة وفي نفس الكلية، ابدأ ألعب مع نفسي لعبة التخمين. أحاول اصطياد راكب من ثلاثة أو أربعة ركاب ليسوا طلبة ولا وجوههم مألوفة. أختار من يقع في مستوى نظري لأتمكّن من مراقبته بطريقة طبيعية، لا تتطلب تمارين الرقبة الليبية التي تتعارض مع مبدأ غض البصر، وهو مبدأ قوي الحضور في ثقافة الكنديين لا يجوز مخالفته.
أحاول تخمين الوظيفة من خلال المظهر، العمر، الملابس، الأحذية، الحقائب والأشياء التي يحملونها، طريقة جلوسهم أو وقوفهم إذا كانوا واقفين. رجلٌ أنيق جداً، ببدلة وربطة عنق. بحذاء لامع مع حقيبة سمسونايت: موظف في مصرف أو شركة. شابة تضع مكياج. ملابسها أقرب إلى ملابس المساء مع حذاء بكعب: موظفة في محل للعطور ومواد الزينة. سيدة غير مهتمة بمظهرها، تميل إلى السمنة، شاحبة الوجه ولا تبدو سعيدة: عاملة نظافة. فتاة رشيقة، جميلة، تفيض نشاطاً وحيوية وثقة بالنفس: طالبة في الثانوي… هكذا أستمر في التخمين. وعند نزول الراكب أو الراكبة أراقب المكان الذي نزل فيه، هل يرجّح تخميني أم لا؟ ثم أنسى الموضوع.
جلست في المقعد. كل من كان في مستوى نظري طلبة. السيد الذي يجلس على يساري بمحاذاة الشباك هو الراكب الوحيد الغريب. كتفي بمحاذاة كتفه. تتطلّب مراقبته وتأمله وتخمين وظيفته الاستعانة بتمارين الرقبة الواضحة، وغير المقبولة في كندا!
يا الله، كيف سيمر الوقت وأنا في هذا الوضع الذي لا أحسد عليه؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ أربعون دقيقة، كيف ستمر!؟
أخيراً جاءتني فكرة.
ابدأ من حذائه. النظر إلى الأسفل شيء عادي، ولا يلفت انتباه أحد. الحذاء أّسود. ليس بجديد ولا قديم. لا نظيف ولا قذر. البنطلون أزرق، يشبه زي العمال… وبعدئذ، ماذا أفعل؟.. ماذا أفعل؟.. ألقيت التفاتة سريعة إلى وجه الرجل. وجدتُه يغطّ في نوم عميق… رائع، رائع! يكفي أن ألتفت إليه مرة بعد مرة وأجمع ملاحظاتي.
الرجل فوق الـ 65، يُفترَض أن يكون متقاعداً ويملك سيارة. الوجه نحيف. شاحب جداً “ما فيشي قطرة دم”، كما تقول أمي. معناه نقص في التغذية. معناه معاشه لا يكفي لشراء أكل جيد. عيناه مرهقتان، والنظارة التي يلبسها إطارها عادي جدا، تشبه النظارات الموجودة في الأسواق، بحوالي 30 دولاراً. النظارات الطبية في كندا تكلف حتى 500 دولار. القميص والبنطلون من نفس اللون الأزرق، القماش العادي جدا. يعني: زيّ عمال. النوم العميق معناه أن الرجل ساهر أمس طول الليل يشتغل. إنه في الغالب عامل من عمّال النظافة. وكلما نمر على مول أقول: مفترض أن ينزل، ولكن يبدو أنه مرهَق جداً، وقد فاتته المحطة.
حين صعدنا الجبل، ولم يعد هناك “مولات”، تأكدت أنه عامل من عمال النظافة في الكلية.
وصل الباص محطته الأخيرة، ونزلت أجري، أجري مسرعة. دخلت الكافتيريا وأخذت قهوتي ومشيت. قاعة الدرس اليوم جديدة، غير القاعة التي ندرس فيها عادة. في القاعة مجموعة فصول جاؤوا لحضور محاضرة يلقيها أستاذ زائر من جامعة UVIC هو البروفسور Zack.
دخلت القاعة. وكالعادة، أختار مقعدي إمّا في الأمام أو في الخلف. لا أحب الوسط. جلست في الصف الأمامي. رأيت مدرّستنا ومدرّسات الفصول الأخرى مع شخص طويل، مليء بالنشاط والحيوية. وجهه ليس غريباً علَي. لكن أين رأيت هذا الرجل؟ أين رأيته؟
المدرّسة قالت:
ـ نرحب بـ Zack. ـ من غير أن تقول قبلها: البروفسور. في كندا يٌعرّف كل شخص باسمه، من دون ألقاب. وأنا أفكر وأتساءل في سري، أردّد: أين رأيت هذا الرجل؟ أين رأيته؟!
قال Zack:
ـ أهلا وسهلا بكم. هذه أول مرة نتقابل. لكني التقيت بعدد منكم في الباص هذا الصباح. ـ وأشار بإصبعه إلى ثلاثه من الطلبة: ـ أنت وأنت وأنت.
ثم وقف قُبالتي، وأشار بإصبعه ناحيتي وقال:
ـ وأنت. كنت جالسة بجانبي في الباص… أهلا وسهلا بكم جميعاً.
وبدأ محاضرته.
جميلة الميهوب